صفحة جزء
باب تأخير الرجم عن الحبلى حتى تضع وتأخير الجلد عن ذي المرض المرجو زواله [ ص: 133 ] عن سليمان بن بريدة عن أبيه { أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة من غامد من الأزد ، فقالت : يا رسول الله طهرني ، فقال : ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه ، فقالت : أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك ، قال : وما ذاك قالت إنها حبلى من الزنا ، قال : أنت ؟ قالت : نعم ، فقال لها : حتى تضعي ما في بطنك ، قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ، قال : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد وضعت الغامدية ، فقال : إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه ، فقام رجل من الأنصار فقال : إلي رضاعه يا نبي الله ، قال : فرجمها } . رواه مسلم والدراقطني ، وقال : هذا حديث صحيح ) .

3126 - ( وعن عمران بن حصين { أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا ، فقالت : يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها ، فقال : أحسن إليها ، فإذا وضعت فأتني ففعل فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها ، فقال له عمر : نصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟ قال : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله ؟ } رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه ، وهو دليل على أن المحدود محترز تحفظ عورته من الكشف ) .

3127 - ( وعن علي قال : { إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت ، فأمرني أن أجلدها ، فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أجلدها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : أحسنت اتركها حتى تماثل } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه ) .


قوله : ( من غامد ) بغين معجمة ودال مهملة ، لقب رجل هو أبو قبيلة وهم بطن من جهينة ، ولهذا وقع في حديث عمران بن حصين المذكور امرأة من جهينة ، وهي [ ص: 134 ] هذه ، واسم غامد المذكور عمرو بن عبد الله ولقب بغامد لإصلاحه أمرا كان في قومه ، وهذه القصة قد رواها جماعة من الصحابة منهم بريدة وعمران بن حصين كما ذكره المصنف في هذا الباب وفي الباب الأول .

ومنهم أبو هريرة وأبو سعيد وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وابن عباس وأحاديثهم عند مسلم ، وفي سياق الأحاديث بعض اختلاف ، ففي حديث بريدة المتقدم في الباب الأول { أنها جاءت بنفسها إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال الحمل وعند الوضع ، وأخر رجمها إلى الفطام ، فجاءت بعد ذلك ورجمت } .

وفي حديثه المذكور في هذا الباب { أنه كفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ، ثم أتى فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ، فقام رجل من الأنصار فقال : إلي رضاعه فرجمت } .

وفي حديث عمران بن حصين المذكور أنها " لما أقرت دعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها وأمره بالإحسان إليها حتى تضع ثم جاء بها عند الوضع فرجمت ولم يمهلها إلى الفطام " ويمكن الجمع بأنها جاءت عند الولادة وجاء معها وليها وتكلمت وتكلم ، ولكنه يبقى الإشكال في رواية أنه رجمها عند الولادة ولم يؤخرها ، ورواية أنه أخرها إلى الفطام ، وقد قيل إنهما روايتان صحيحتان والقصة واحدة ، ورواية التأخير رواية صحيحة صريحة لا يمكن تأويلها ، فيتعين تأويل الرواية القاضية بأنها رجمت عند الولادة بأن يقال فيها طي وحذف والتقدير أن وليها جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند الولادة فأمر بتأخيرها إلى الفطام ثم أمر بها فرجمت

ولا يخفى أن هذا وإن تم باعتبار حديث عمران المذكور في الباب فلا يتم باعتبار حديث بريدة المذكور فإن فيه " أنه قام رجل من الأنصار فقال : إلي رضاعه يا نبي الله ، فرجمها " ويبعد أن يقال إن هذا لا يدل على أنه قبل قوله وكفالته بل أخرها إلى الفطام ثم أمر برجمها بعد ذلك ; لأن ذلك السياق يأبى كل الإباء ، وما أكثر ما يقع مثل هذا الاختلاف بين الصحابة في القصة الواحدة التي مخرجها متحد بالاتفاق ثم ترتكب لأجل الجمع بين روايتهم العظائم التي لا تخلو في الغالب من تعسفات وتكلفات كأن السهو والغلط والنسيان لا يجري عليهم وما هم إلا كسائر الناس في العوارض البشرية ، فإن أمكننا الجمع بوجه سليم عن التعسفات فذاك وإلا توجه علينا المصير إلى الترجيح وحمل الغلط أو النسيان على الرواية المرجوحة ، إما من الصحابي أو ممن هو دونه من الرواة .

وقد مر لنا في هذا الشرح عدة مواطن من هذا القبيل مشينا فيها على ما مشى عليه الناس من الجمع بوجوه ينفر عن قبولها كل طبع سليم ، ويأبى الرضا بها كل عقل مستقيم . قوله : ( أصبت حدا فأقمه علي ) هذا الإجمال قد وقع من المرأة تبيينه . كما في سائر الروايات ، ولكنه وقع الاختصار في هذه الرواية كما يشعر بذلك قوله صلى الله عليه وسلم عقب ذلك : " أحسن إليها فإذا وضعت فأتني " وقد قدمنا أن مجرد الإقرار بالحد من دون تعيين لا يجوز للإمام [ ص: 135 ] أن يحد به . قوله : ( أحسن إليها ) إنما أمره بذلك لأن سائر قرابتها ربما حملتهم الغيرة وحمية الجاهلية على أن يفعلوا بها ما يؤذيها فأمره بالإحسان تحذيرا من ذلك .

قوله : ( فشدت ) في رواية : " فشكت " ومعناهما واحد والغرض من ذلك أن لا تنكشف عند وقوع الرجم عليها لما جرت به العادة من الاضطراب عند نزول الموت وعدم المبالاة بما يبدو من الإنسان ، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن المرأة ترجم قاعدة والرجل قائما لما في ظهور عورة المرأة من الشناعة ، وقد زعم النووي أنه اتفق العلماء على أن المرأة ترجم قاعدة وليس في الأحاديث ما يدل على ذلك ولا شك أنه أقرب إلى الستر ، ولم يحك ذلك في البحر إلا عن أبي حنيفة والهادوية . وحكي عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف أنها تحد قائمة ، وذهب مالك إلى أن الرجل يحد قاعدا .

قوله : ( ثم صلى عليها ) قد تقدم الخلاف في ذلك في كتاب الجنائز . قوله : ( لو قسمت بين سبعين . . . إلخ ) في رواية بريدة المتقدمة في الباب الأول " لو تابها صاحب مكس " ولا مانع من أن يكون ذلك قد وقع جميعه منه صلى الله عليه وسلم .

وفيه دليل على أن الحدود لا تسقط بالتوبة ، وإليه ذهب جماعة من العلماء منهم الحنفية والهادي . وذهب جماعة منهم إلى سقوطها بها ، ومنهم الشافعي ، وقد استدل بقصة الغامدية على أنه يجب تأخير الحد عن الحامل حتى تضع ثم حتى ترضع وتفطم ، وعند الهادوية أنها لا تؤخر إلى الفطام إلا إذا عدم مثلها للرضاع والحضانة ، فإن وجد من يقوم بذلك لم تؤخر ، وتمسكوا بحديث بريدة المذكور . قوله : ( اتركها حتى تماثل ) بالمثلثة ، قال في القاموس : تماثل العليل : قارب البرء ، وفي رواية لأبي داود : " حتى ينقطع عنها الدم " وسيأتي في باب حد الرقيق بلفظ : " إذا تعالت من نفاسها فاجلدها " وفيه دليل على أن المريض يمهل حتى يبرأ أو يقارب البرء .

وقد حكي في البحر الإجماع على أنه يمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو ، فإن كان مأيوسا فقال الهادي وأصحاب الشافعي : إنه يضرب بعثكول إن احتمله . وقال الناصر والمؤيد بالله : لا يحد في مرضه وإن كان مأيوسا والظاهر الأول لحديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف الآتي قريبا . والمرجوم إذا كان مريضا أو نحوه فذهبت العترة والشافعية والحنفية ومالك إلى أنه لا يمهل لمرض ولا لغيره إذ القصد إتلافه . وقال المروزي : يؤخر لشدة الحر أو البرد أو المرض ، سواء ثبت بإقراره أو بالبينة ، وقال الإسفراييني يؤخر للمرض فقط وفي الحر والبرد أوجه : يرجم في الحال ، أو حيث يثبت بالبينة لا الإقرار أو العكس .

التالي السابق


الخدمات العلمية