صفحة جزء
[ ص: 44 ] باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة .

13 - ( عن أبي سعيد الخدري قال { : قيل : يا رسول الله أتتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الماء طهور لا ينجسه شيء } . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال : حديث حسن ، وقال أحمد بن حنبل : حديث بئر بضاعة صحيح .

وفي رواية لأحمد وأبي داود : { إنه يستقى لك من بئر بضاعة وهي بئر تطرح فيها محايض النساء ، ولحم الكلاب ، وعذر الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الماء طهور لا ينجسه شيء } . قال أبو داود : سمعت قتيبة بن سعيد ، قال : سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها قلت : أكثر ما يكون فيها الماء ؟ قال : إلى العانة ، قلت : فإذا نقص ، قال : دون العورة . قال أبو داود : قدرت بئر بضاعة بردائي فمددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه هل غير بناؤها عما كان عليه ؟ فقال لا ، ورأيت فيها ماء متغير اللون ) .


الحديث أخرجه أيضا الشافعي في الأم والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي . وقد صححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم والحاكم ، وجوده وأبو أسامة ، ونقل ابن الجوزي أن الدارقطني قال : إنه ليس بثابت . قال في التلخيص : ولم نر ذلك في العلل له ولا في السنن ، وأعله ابن القطان بجهالة راويه عن أبي سعيد ، واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه . قال ابن القطان : وله طريق أحسن من هذه ثم ساقها عن أبي سعيد ، وقال ابن منده في حديث أبي سعيد هذا : إسناده مشهور .

وفي الباب عن جابر عند ابن ماجه بلفظ { إن الماء لا ينجسه شيء } وفي إسناده أبو سفيان طريف بن شهاب وهو ضعيف متروك . وعن ابن عباس عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان بنحوه . وعن سهل بن سعد عند الدارقطني . وعن عائشة عند الطبراني في الأوسط وأبي يعلى والبزار وابن السكن في صحاحه ، ورواه أحمد من طريق أخرى صحيحة لكنه موقوف .

وأخرجه أيضا بزيادة الاستثناء الدارقطني من حديث ثوبان ، ولفظه : { الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه } وفي إسناده رشدين بن سعد وهو متروك . وعن أبي أمامة مثله عند [ ص: 45 ] ابن ماجه والطبراني وفيه أيضا رشدين .

ورواه البيهقي بلفظ : { إن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه } من طريق عطية بن بقية عن أبيه عن ثور عن رشدين بن سعد عن أبي أمامة ، وفيه تعقب على من زعم أن رشدين بن سعد تفرد بوصله . ورواه الطحاوي والدارقطني من طريق رشدين بن سعد مرسلا . وصحح أبو حاتم إرساله . وقال الشافعي : لا يثبت أهل الحديث مثله ، وقال الدارقطني : لا يثبت هذا الحديث . وقال النووي : اتفق المحدثون على تضعيفه .

قال في البدر المنير : فتلخص أن الاستثناء المذكور ضعيف فتعين الاحتجاج بالإجماع كما قال الشافعي والبيهقي وغيرهما : يعني الإجماع على أن المتغير بالنجاسة ريحا أو لونا أو طعما نجس . وكذا نقل الإجماع ابن المنذر فقال : أجمع العلماء . على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعما أو لونا أو ريحا فهو نجس انتهى .

وكذا نقل الإجماع المهدي في البحر : قوله : ( أتتوضأ ) بتاءين مثناتين من فوق خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذا قال في التلخيص . قوله : ( النتن ) بنون مفتوحة وتاء مثناة من فوق ساكنة ثم نون قال ابن رسلان : وينبغي أن يضبط بفتح النون وكسر التاء وهو الشيء الذي له رائحة كريهة من قولهم : نتن الشيء بكسر التاء ينتن بفتحها فهو نتن .

قوله : ( بئر بضاعة ) أهل اللغة يضمون الباء ويكسرونها والمحفوظ في الحديث الضم . قوله : ( والحيض ) بكسر الحاء جمع حيضة بكسر الحاء أيضا مثل سدر وسدرة ، والمراد بها خرقة الحيض الذي تمسحه المرأة بها ، وقيل : الحيضة الخرقة التي تستثفر المرأة بها .

قوله : ( عذر الناس ) بفتح العين المهملة وكسر الذال المعجمة جمع عذرة ، كلمة وكلم وهي الخرء وأصلها اسم لفناء الدار ثم سمي بها الخارج من باب تسمية المظروف باسم الظرف . قوله : ( إلى العانة ) قال الأزهري وجماعة : وهي موضع منبت الشعر فوق قبل الرجل والمرأة . قوله : ( دون العورة ) قال ابن رسلان : يشبه أن يكون المراد به عورة الرجل أي دون الركبة لقوله صلى الله عليه وسلم : { عورة الرجل ما بين ركبته وسرته } .

قوله : ( ماء متغير اللون ) قال النووي : يعني بطول المكث وأصل المنبع لا بوقوع شيء أجنبي فيه . والحديث يدل أن الماء لا ينجس بوقوع شيء فيه سواء كان قليلا أو كثيرا ولو تغيرت أوصافه أو بعضها لكنه قام الإجماع على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة خرج عن الطهورية فكان الاحتجاج به لا بتلك الزيادة كما سلف ، فلا ينجس الماء بما لاقاه ، ولو كان قليلا إلا إذا تغير ، وقد ذهب إلى ذلك ابن عباس وأبو هريرة والحسن البصري وابن المسيب وعكرمة وابن أبي ليلى والثوري وداود الظاهري والنخعي وجابر بن زيد ومالك والغزالي ، ومن أهل البيت : القاسم والإمام يحيى ، وذهب ابن عمر ومجاهد والشافعية والحنفية وأحمد بن حنبل وإسحاق ، ومن أهل البيت : الهادي والمؤيد [ ص: 46 ] بالله وأبو طالب والناصر إلى أنه ينجس القليل بما لاقاه من النجاسة وإن لم تتغير أوصافه إذ تستعمل النجاسة باستعماله وقد قال تعالى : { والرجز فاهجر } ولخبر الاستيقاظ ، وخبر الولوغ ولحديث : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم } وحديث القلتين ولترجيح الحظر ولحديث : { استفت قلبك وإن أفتاك المفتون } عند أحمد وأبي يعلى والطبراني وأبي نعيم مرفوعا .

وحديث : { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } ، أخرجه النسائي وأحمد وصححه ابن حبان والحاكم والترمذي من حديث الحسن بن علي ، قالوا : فحديث : { الماء طهور لا ينجسه شيء } مخصص بهذه الأدلة واختلفوا في حد القليل الذي يجب اجتنابه عند وقوع النجاسة فيه فقيل : ما ظن استعمالها باستعماله ، وإليه ذهب أبو حنيفة والمؤيد بالله وأبو طالب وقيل : دون القلتين على اختلاف في قدرهما ، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه والناصر والمنصور بالله ، وأجاب القائلون بأن القليل لا ينجس بالملاقاة للنجاسة إلا أن يتغير باستلزام الأحاديث الواردة في اعتبار الظن للدور لأنه لا يعرف القليل إلا بظن الاستعمال ولا يظن إلا إذا كان قليلا ، وأيضا الظن لا ينضبط بل يختلف باختلاف الأشخاص ، وأيضا جعل ظن الاستعمال مناطا يستلزم استواء القليل والكثير .

وعن حديث القلتين بأنه مضطرب الإسناد والمتن كما سيأتي . والحاصل أنه لا معارضة بين حديث القلتين وحديث { الماء طهور لا ينجسه شيء } فما بلغ مقدار القلتين فصاعدا فلا يحمل الخبث ولا ينجس بملاقاة النجاسة إلا أن يتغير أحد أوصافه فنجس بالإجماع فيخص به حديث القلتين ، وحديث : " لا ينجسه شيء " . وأما ما دون القلتين فإن تغير خرج عن الطهارة بالإجماع وبمفهوم حديث القلتين فيخص بذلك عموم حديث " لا ينجسه شيء " وإن لم يتغير بأن وقعت فيه نجاسة لم تغيره ، فحديث لا ينجسه شيء يدل بعمومه على عدم خروجه عن الطهارة لمجرد ملاقاة النجاسة ، وحديث القلتين يدل بمفهومه على خروجه عن الطهورية بملاقاتها ، فمن أجاز التخصيص بمثل هذا المفهوم قال به في هذا المقام ، ومن منع منه منعه فيه .

ويؤيد جواز التخصيص بهذا المفهوم لذلك العموم بقية الأدلة التي استدل بها القائلون بأن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم تغيره كما تقدم ، وهذا المقام من المضايق التي لا يهتدي إلى ما هو الصواب فيها إلا الأفراد . وقد حققت المقام بما هو أطول من هذا وأوضح في طيب النشر على المسائل العشر . وللناس في تقدير القليل والكثير أقوال ليس عليه أثارة من علم فلا نشتغل بذكرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية