صفحة جزء
باب ما جاء في قدر التعزير والحبس في التهم 3180 - ( عن أبي بردة بن نيار : أنه { سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى } . رواه الجماعة إلا النسائي )

3181 - ( وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده { : أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه } . رواه الخمسة إلا ابن ماجه ) .

حديث أبي بردة مع كونه متفقا عليه قد تكلم في إسناده ابن المنذر والأصيلي من جهة الاختلاف فيه . وقال البيهقي : قد أقام عمرو بن الحارث إسناده فلا يضره تقصير من قصر فيه . وقال الغزالي : صححه بعض الأئمة ، وتعقبه الرافعي في التذنيب فقال : أراد بقوله ( بعض الأئمة ) صاحب التقريب ، ولكن الحديث أظهر من أن تضاف صحته إلى فرد من الأئمة فقد صححه البخاري ومسلم .


وحديث بهز بن حكيم حسنه الترمذي . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ثم أخرج له شاهدا من حديث أبي هريرة ، وفيه { أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة } . وقد تقدم الاختلاف في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده . قوله : ( لا يجلد ) روي بفتح الياء في أوله وكسر اللام .

وروي أيضا بضم الياء وفتح اللام .

وروي بصيغة النهي مجزوما وبصيغة النفي مرفوعا . قوله : ( فوق عشرة أسواط ) في رواية " فوق عشر ضربات " . قوله : ( إلا في حد ) المراد به ما ورد عن الشارع مقدرا بعدد مخصوص كحد الزنا والقذف ونحوهما . وقيل : المراد بالحد هنا عقوبة [ ص: 179 ] المعصية مطلقا لا الأشياء المخصوصة ، فإن ذلك التخصيص إنما هو من اصطلاح الفقهاء ، وعرف الشرع إطلاق الحد على كل عقوبة لمعصية من المعاصي كبيرة أو صغيرة .

ونسب ابن دقيق العيد هذه المقالة إلى بعض المعاصرين له ، وإليها ذهب ابن القيم ، وقال : المراد بالنهي المذكور في التأديب للمصالح كتأديب الأب ابنه الصغير . واعترض على ذلك بأنه قد ظهر أن الشارع يطلق الحدود على العقوبات المخصوصة ، ويؤيد ذلك قول عبد الرحمن بن عوف : إن أخف الحدود ثمانون كما تقدم في كتاب حد شارب الخمر . وقد ذهب إلى العمل بحديث الباب جماعة من أهل العلم منهم الليث وأحمد في المشهور عنه وإسحاق وبعض الشافعية . وذهب أبو حنيفة والشافعي وزيد بن علي والمؤيد بالله والإمام يحيى إلى جواز الزيادة على عشرة أسواط ولكي لا يبلغ إلى أدنى الحدود .

وذهب الهادي والقاسم والناصر وأبو طالب إلى أنه يكون في كل موجب للتعزير دون حد جنسه ، وإلى مثل ذلك ذهب الأوزاعي وهو مروي عن محمد بن الحسن الشيباني . وقال أبو يوسف إنه ما يراه الحاكم بالغا ما بلغ . وقال مالك وابن أبي ليلى : أكثره خمسة وسبعون ، هكذا حكى ذلك صاحب البحر ، والذي حكاه النووي عن مالك وأصحابه وأبي ثور وأبي يوسف ومحمد أنه إلى رأي الإمام بالغا ما بلغ . وقال الرافعي : الأظهر أنها تجوز الزيادة على العشرة ، وإنما المراعى النقصان عن الحد .

قال : وأما الحديث المذكور فمنسوخ على ما ذكره بعضهم واحتج بعمل الصحابة بخلافه من غير إنكار انتهى . وقال البيهقي عن الصحابة آثار مختلفة في مقدار التعزير وأحسن ما يصار إليه في هذا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر حديث أبي بردة المذكور في الباب . قال الحافظ : فتبين بما نقله البيهقي عن الصحابة أن لا اتفاق على عمل في ذلك ، وكيف يدعى نسخ الحديث الثابت ويصار إلى ما يخالفه من غير برهان وسبق إلى دعوى عمل الصحابة بخلافه الأصيلي وجماعة ، وعمدتهم كون عمر جلد في الخمر ثمانين وأن الحد الأصلي أربعون ، والباقية ضربها تعزيرا ، لكن حديث علي السابق يدل على أن عمر إنما ضرب ثمانين معتقدا أنه الحد ، وأما النسخ فلا يثبت إلا بدليل .

وذكر بعض المتأخرين أن الحديث محمول على التأديب الصادر من غير الولاة كالسيد يضرب عبده ، والزوج يضرب زوجته ، والأب يضرب ولده . والحق العمل بما دل عليه الحديث الصحيح المذكور في الباب ، وليس لمن خالفه متمسك يصلح للمعارضة . وقد نقل القرطبي عن الجمهور أنهم قالوا بما دل عليه ، وخالفه النووي فنقل عن الجمهور عدم القول به ، ولكن إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، فلا ينبغي لمنصف التعويل على قول أحد عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر

[ ص: 180 ] قوله : ( في تهمة ) بضم التاء وسكون الهاء ، وقد تفتح في لغة ، وهي فعلة من الوهم ، والتاء بدل من الواو ، واتهمته : إذا ظننت فيه ما نسب إليه .

وفيه دليل على أن الحبس كما يكون حبس عقوبة يكون حبس استظهار في غير حق بل لينكشف به بعض ما وراءه . وقد بوب أبو داود على هذا الحديث فقال : باب في الحبس في الدين وغيره . وذكر معه حديث عمرو بن الشريد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لي { الواجد يحل عرضه وعقوبته } . قد تقدم .

وذكر أيضا حديث الهرماس بن حبيب عن أبيه عن جده قال : { أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي ، فقال لي : الزمه ، ثم قال : يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك ؟ } وأخرجه أيضا ابن ماجه . قال في البحر : مسألة : وندب اتخاذ سجن للتأديب واستيفاء الحقوق لفعل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعمر وعثمان ولم ينكر ، وكذلك الدرة والسوط لفعل عمر وعثمان .

فرع : ويجب حبس من عليه الحق للإيفاء إجماعا إن طلب ، لحبسه صلى الله عليه وسلم من أعتق شقصا في عبد حتى غرم لشريكه قيمته ، وكذلك التقييد انتهى . والحديث الذي ذكره أخرجه البيهقي وهو منقطع

التالي السابق


الخدمات العلمية