صفحة جزء
باب استحباب الطهارة لذكر الله عز وجل والرخصة في تركه

275 - ( عن المهاجر بن قنفذ { أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه فرد عليه ، وقال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة } رواه أحمد وابن ماجه بنحوه )


[ ص: 266 ] الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي ، وهو يدل على كراهة الذكر للمحدث حدثا أصغر ، ولفظ أبي داود وهو يبول ، ويعارضه ما سيأتي من حديث علي وعائشة ، فإن في حديث علي لا يحجزه من القرآن شيء ليس الجنابة ، فإذا كان الحدث الأصغر لا يمنعه عن قراءة القرآن وهو أفضل الذكر كان جواز ما عداه من الأذكار بطريق الأولى ، وكذلك حديث عائشة ، فإن قولها ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ) مشعر بوقوع الذكر منه حال الحدث الأصغر ; لأنه من جملة الأحيان المذكورة ، فيمكن الجمع بأن هذا الحديث خاص فيخص به ذلك العموم ، ويمكن حمل الكراهة على كراهة التنزيه ، ومثله الحديث الذي بعده ، ويمكن أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الجواب ; لأنه لم يخش فوت من سلم عليه فيكون دليلا على جواز التراخي مع عدم خشية الفوت لمن كان مشتغلا بالوضوء ، ولكن التعليل بكراهته لذكر الله في تلك الحال يدل على أن الحدث سبب الكراهة من غير نظر إلى غيره .

276 - ( وعن أبي جهيم بن الحارث قال : { أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام } . متفق عليه . ومن الرخصة في ذلك حديث عبد الله بن سلمة عن علي ، وحديث ابن عباس ، قال : بت عند خالتي ميمونة . وسنذكرهما ) .

قوله ( : بئر جمل ) بجيم وميم مفتوحتين ، وفي رواية النسائي ( بئر الجمل ) بالألف واللام ، وهو موضع بقرب المدينة . قوله : ( حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ) وهو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم كان عادما للماء حال التيمم ، فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادرين على استعماله ، قال النووي : ولا فرق بين أن يضيق وقت الصلاة وبين أن يتسع . ولا فرق أيضا بين صلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما ، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور .

وقال أبو حنيفة : يجوز أن يتيمم مع وجود الماء لصلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما انتهى . وهو أيضا مذهب الهادوية .

وفي الحديث دلالة على جواز التيمم من الجدار إذا كان عليه غبار . قال النووي : وهو جائز عندنا ، وعند الجمهور من السلف والخلف . واحتج به من جوز التيمم بغير تراب . وأجيب بأنه محمول على جدار عليه تراب .

وفيه دليل على جواز التيمم للنوافل والفضائل ، كسجود التلاوة والشكر ومس المصحف ونحوها ، كما يجوز للفرائض ، وهذا مذهب العلماء كافة ، قاله النووي .

وفي الحديث : ( إن المسلم في حال قضاء الحاجة لا يستحق جوابا ) وهذا متفق عليه . قال النووي : [ ص: 267 ] ويكره للقاعد على قضاء الحاجة أن يذكر الله بشيء من الأذكار . قالوا : فلا يسبح ولا يهلل ، ولا يرد السلام ، ولا يشمت العاطس ، ولا يحمد الله إذا عطس ، ولا يقول مثل ما يقول المؤذن ، وكذلك لا يأتي بشيء من هذه الأذكار في حال الجماع ، وإذا عطس في هذه الأحوال يحمد الله تعالى في نفسه ، ولا يحرك به لسانه ، وهذا الذي ذكرناه من كراهة الذكر ، هو كراهة تنزيه لا تحريم ، فلا إثم على فاعله .

وإلى هذا ذهبت الشافعية والأكثرون ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس وعطاء ومعبد الجهني وعكرمة ، وقال إبراهيم النخعي وابن سيرين : لا بأس بالذكر حال قضاء الحاجة ، ولا خلاف أن الضرورة إذا دعت إلى الكلام كما إذا رأى ضريرا يقع في بئر أو رأى حية تدنو من أعمى كان جائزا . وقد تقدم طرف من هذا الحديث ، وطرف من شرحه في باب : كف المتخلي عن الكلام . قوله : ( ومن الرخصة في ذلك حديث عبد الله بن سلمة عن علي ) سيذكره المصنف في باب تحريم القرآن على الحائض والجنب .

وفيه ( أنه كان لا يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة ) فأشعر بجواز قراءة القرآن في جميع الحالات إلا في حالة الجنابة ، والقرآن أشرف الذكر ، فجواز غيره بالأولى . ومن جملة الحالات حالة الحدث الأصغر . قوله : ( وحديث ابن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة ) محل الدلالة منه قوله ثم قرأ العشر الآيات أولها { إن في خلق السموات والأرض } إلى آخر السورة ، قال ابن بطال ومن تبعه فيه دليل على رد قول من كره قراءة القرآن على غير طهارة ; لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ ، وتعقبه ابن المنير وغيره ، بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض ، وليس كذلك ; لأنه قال : { تنام عيناي ولا ينام قلبي } .

وأما كونه توضأ عقب ذلك ، فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ . قال الحافظ : وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم ; لأنه لم يتعين كونه أحدث في النوم ، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا في كونه أحدث ، ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره ، وما ادعوه من التجديد وغيره . الأصل عدمه ، وقد سبق الإسماعيلي إلى معنى ما ذكره ابن المنير .

277 - ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه } رواه الخمسة إلا النسائي وذكره البخاري بغير إسناد ) [ ص: 268 ] الحديث أخرجه مسلم أيضا ، قال النووي في شرح مسلم : هذا الحديث أصل في ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار . وهذا جائز بإجماع المسلمين . وإنما اختلف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض ، وسيأتي الكلام على ذلك في باب : تحريم القراءة على الحائض والجنب . واعلم أنه يكره الذكر في حالة الجلوس على البول والغائط ، وفي حالة الجماع . وقد ذكرنا ذلك في الحديث الذي قبل هذا ، فيكون الحديث مخصوصا بما سوى هذه الأحوال ، ويكون المقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله تعالى متطهرا ومحدثا وجنبا وقائما وقاعدا ومضطجعا وماشيا ، قاله النووي . .

التالي السابق


الخدمات العلمية