صفحة جزء
كتاب الجهاد والسير باب الحث على الجهاد وفضل الشهادة والرباط والحرس [ ص: 245 ] عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها } . متفق عليه ) .

3234 - ( وعن أبي عبس الحارثي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار } . رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي ) .

3235 - ( وعن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { غدوة أو روحة في سبيل الله خير مما طلعت عليه الشمس وغربت } . رواه أحمد ومسلم والنسائي . وللبخاري من حديث أبي هريرة مثله ) .

3236 - ( وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة } . رواه أحمد والترمذي ) .

3237 - ( وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف } . رواه أحمد ومسلم والترمذي ) .

3238 - ( وعن ابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن الجنة تحت ظلال السيوف } . رواه أحمد والبخاري [ ص: 246 ]

3239 - ( وعن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ، والروحة يروحها العبد أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها } . متفق عليه ) .


حديث أبي هريرة الآخر قال الترمذي : هو حديث حسن ، ولفظه عن أبي هريرة : قال : { مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها ، فقال : لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة ؟ اغزوا في سبيل الله ، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة } . قوله : ( كتاب الجهاد ) قال في الفتح : الجهاد بكسر الجيم أصله لغة المشقة ، يقال : جاهدت جهادا : أي بلغت المشقة ، وشرعا : بذل الجهد في قتال الكفار ويطلق أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق . فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها .

وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات ، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب ، وأما الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب ، ثم قال : واختلف في جهاد الكفار هل كان أولا فرض عين أو كفاية ؟ ثم قال في باب وجوب النفير : فيه قولان مشهوران للعلماء ، وهما في مذهب الشافعي وقال : الماوردي : كان عينا على المهاجرين دون غيرهم ، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة لنصر الإسلام . وقال السهيلي : كان عينا على الأنصار دون غيرهم .

ويؤيده مبايعتهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على أن يؤووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه ; فيخرج من قولهما أنه كان عينا على الطائفتين كفاية في حق غيرهم ، ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق ، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء . وقيل كان عينا في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها والتحقيق أنه كان عينا على من عينه النبي صلى الله عليه وسلم في حقه وإن لم يخرج ، وأما بعده صلى الله عليه وسلم فهو فرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة ، كأن يدهم العدو ، ويتعين على من عينه الإمام ، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور . ومن حججهم أن الجزية تجب بدلا عنه ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا ، فليكن بدلها كذلك .

وقيل يجب كلما أمر وهو قوي . قال : والتحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده ، وإما بلسانه ، وإما بماله ، وإما بقلبه ، انتهى . وأول ما شرع الجهاد [ ص: 247 ] بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقا . قوله : ( لغدوة أو روحة ) الغدوة بالفتح ، واللام للابتداء : وهي المرة الواحدة من الغدو ، وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه . والروحة : المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها . قوله : ( في سبيل الله ) أي الجهاد . قوله : ( خير من الدنيا وما فيها ) قال ابن دقيق العيد : يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون من باب تنزيل الغائب منزلة المحسوس تحقيقا له في النفس لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطباع ، ولذلك وقعت المفاضلة بها ، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة . والثاني : أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في طاعة الله تعالى . ويؤيد هذا الثاني ما رواه ابن المبارك في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم عبد الله بن رواحة فتأخر ليشهد الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم }

والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أعظم من جميع ما في الدنيا فكيف لمن حصل منها أعلى الدرجات . والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدنيا . قوله : ( من اغبرت قدماه ) زاد أحمد من حديث أبي هريرة " ساعة من نهار " وفيه دليل على عظم قدر الجهاد في سبيل الله ، فإن مجرد مس الغبار للقدم إذا كان من موجبات السلامة من النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستفرغ وسعه .

قوله : ( خير مما طلعت عليه الشمس وغربت ) هذا هو المراد بقوله في الحديث الأول : { خير من الدنيا وما فيها } . قوله : ( فواق ناقة ) هو قدر ما بين الحلبتين من الاستراحة . قوله : ( تحت ظلال السيوف ) الظلال جمع ظل ، وإذا تدانى الخصمان صار كل واحد منهما تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال . قال القرطبي : وهو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ ، فإنه أفاد الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه والحض على مقاربة العدو واستعمال السيوف والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين . وقال ابن الجوزي : المراد أن الجنة تحصل بالجهاد . قوله : ( وموضع سوط أحدكم ) في رواية للبخاري " وقاب قوس أحدكم " أي قدره . [ ص: 248 ]

3240 - ( وعن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة ، ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة ، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها المسك } . رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه ) .

3241 - ( وعن عثمان بن عفان قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل } . رواه أحمد والترمذي والنسائي ولابن ماجه معناه ) .

3242 - ( وعن سلمان الفارسي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان } . رواه أحمد ومسلم والنسائي ) .

3243 - ( وعن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة بقيام ليلها وصيام نهارها } . رواه أحمد ) .

3244 - ( وعن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله } . رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب ) .

3245 - ( وعن أبي أيوب قال : إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام ، قلنا هل نقيم في أموالنا ونصلحها ؟ فأنزل الله تعالى : { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد . رواه أبو داود ) .

[ ص: 249 ] وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم } . رواه أحمد وأبو داود والنسائي ) . حديث معاذ أخرجه أيضا ابن ماجه ، وإسناد ابن ماجه والترمذي صحيح ، وأما إسناد أبي داود ففيه بقية بن الوليد وهو متكلم فيه ، ولفظه عند أبي داود : { من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة ، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد ، ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت ، لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ، ومن خرج به خراج في سبيل الله عز وجل فإن عليه طابع الشهداء } وذكر المصنف رحمه اللهأن الترمذي صحح حديث معاذ المذكور ، ولم نجد ذلك في جامعه ، وإنما صحح حديث أبي هريرة بمعناه ، ولكنه قد وافق المصنف على حكاية تصحيح الترمذي لحديث معاذ جماعة منهم المنذري في مختصر السنن والحافظ في الفتح ، وصححه أيضا ابن حبان والحاكم .

وحديث عثمان قال الترمذي بعد إخراجه : إنه حديث حسن صحيح غريب . وحديث سلمان الفارسي أخرجه أيضا الترمذي . وحديث عثمان الثاني أشار إليه الترمذي . وحديث ابن عباس قال الترمذي بعد إخراجه : حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رزيق .

وحديث أبي أيوب أخرجه أيضا النسائي والترمذي وقال : حسن صحيح ، وصححه أيضا ابن حبان والحاكم ، ولفظ الحديث عند أبي داود عن أسلم بن عمران قال : " غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة ، فحمل رجل على العدو فقال الناس : مه مه لا إله إلا الله يلقي بيده إلى التهلكة ؟ فقال أبو أيوب : إنما أنزلت هذه الآية فذكره " .

وفي الترمذي فضالة بن عبيد بدل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد .

وحديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري ، ورجال إسناده رجال الصحيح وصححه النسائي . والأحاديث في فضل الجهاد كثيرة جدا لا يتسع لبسطها إلا مؤلف مستقل . قوله : ( من جرح جرحا ) ظاهر هذا أنه لا يختص بالشهيد الذي يموت في تلك الجراحة ، بل هو حاصل لكل من جرح ، ويحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في الدنيا ، فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول ولا ينفي ذلك كونه له فضل في الجملة . قال في الفتح : قال العلماء : الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد فضيلته ببذل نفسه في طاعة الله . قوله : ( أو نكب نكبة ) بضم النون من نكب وكسر الكاف

قال في القاموس : [ ص: 250 ] نكب عنه كنصر وفرح نكبا ونكبا ونكوبا عدل كنكب وتنكب ونكبه تنكيبا : نحاه لازم متعد ، وطريق منكوب : على غير قصد ، ونكبه الطريق ونكب به عنه : عدل والنكب : الطرح ، انتهى . وقال في الفتح : النكبة أن يصيب العضو شيء فيدميه انتهى قوله : ( لونها الزعفران ) في حديث أبي هريرة عند الترمذي وغيره { اللون لون الدم والريح ريح المسك } . قوله : ( رباط يوم في سبيل الله ) بكسر الراء وبعدها موحدة ثم طاء مهملة . قال في القاموس : المرابطة أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغره ، وكل معد لصاحبه ، فسمي المقام في الثغر رباطا . ومنه قوله تعالى: {وصابروا ورابطوا } ، انتهى . قوله : ( أمن الفتان ) بفتح الفاء وتشديد التاء الفوقية وبعد الألف نون

قال في القاموس : الفتان : اللص ، والشيطان كالفاتن والصانع ، والفتانان : الدرهم والدينار ، ومنكر ونكير . قال في النهاية : وبالفتح هو الشيطان لأنه يفتن الناس عن الدين ، انتهى . والمراد ههنا الشيطان أو منكر ونكير . قوله : ( حرس ) هو مصدر حرس . والمراد هنا حراسة الجيش يتولاها واحد منهم فيكون له ذلك الأجر ; لما في ذلك من العناية بشأن المجاهدين والتعب في مصالح الدين ، ولذلك قال في الحديث الآخر : { عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله } . قوله : ( فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا . . . إلخ ) هذا فرد من أفراد ما تصدق عليه الآية لأنها متضمنة للنهي لكل أحد عن كل ما يصدق عليه أنه من باب الإلقاء بالنفس إلى التهلكة والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فإذا كانت تلك الصورة التي قال الناس إنها من باب الإلقاء لما رأوا الرجل الذي حمل على العدو كما سلف من صور الإلقاء لغة أو شرعا فلا شك أنها داخلة تحت عموم الآية ولا يمنع من الدخول اعتراض أبي أيوب بالسبب الخاص .

وقد تقرر في الأصول رجحان قول من قال إن الاعتبار بعموم اللفظ ، ولا حرج في اندراج التهلكة باعتبار الدين وباعتبار الدنيا تحت قوله : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ويكون ذلك من باب استعمال المشترك في جميع معانيه وهو أرجح الأقوال الستة المعروفة في الأصول في استعمال المشترك .

وفي البخاري في تفسير أن التهلكة هي ترك النفقة في سبيل الله . وذكر صاحب الفتح هنالك أقوالا أخر فليراجع . وقد أخرج الحاكم من حديث أنس : { أن رجلا قال : يا رسول الله أرأيت إن انغمست في المشركين فقاتلتهم حتى قتلت أإلى الجنة ؟ قال : نعم ، فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قتل } وفي الصحيحين عن جابر قال : { قال رجل : أين أنا يا رسول الله إن قتلت ؟ قال : في الجنة ، فألقى تمرات كن بيده ثم قاتل حتى قتل } وروى ابن إسحاق في المغازي عن عاصم بن عمر بن قتادة قال : { لما التقى الناس يوم بدر قال عوف بن الحارث : يا رسول الله ما يضحك [ ص: 251 ] الرب من عبده ؟ قال : أن يراه غمس يده في القتال يقاتل حاسرا فنزع درعه ثم تقدم فقاتل حتى قتل } . قوله : ( جاهدوا المشركين . . . إلخ ) فيه دليل على وجوب المجاهدة للكفار بالأموال والأيدي والألسن . وقد ثبت الأمر القرآني بالجهاد بالأنفس والأموال في مواضع ، وظاهر الأمر الوجوب . وقد تقدم الكلام على ذلك وسيأتي أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية