صفحة جزء
باب ما جاء في إخلاص النية في الجهاد وأخذ الأجرة عليه والإعانة 3250 - ( عن أبي موسى قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } . رواه الجماعة ) .

3251 - ( وعن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم في الآخرة ويبقى لهم الثلث ، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم } . رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي ) .

3252 - ( عن أبي أمامة قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا شيء له فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا شيء له ، ثم قال : إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا ، وابتغي به وجهه } . رواه أحمد والنسائي ) .


حديث أبي أمامة جود الحافظ إسناده في فتح الباري . وقد أخرج أبو موسى المديني في الصحابة عن لاحق بن ضميرة الباهلي قال : { وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر ، فقال : لا شيء له } وفي إسناده ضعف . وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة : { أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا أجر له ، فأعاد ذلك مرة أخرى ثم ثالثة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا أجر له } . قوله : ( يقاتل شجاعة ) في رواية البخاري [ ص: 254 ] في الجهاد : { والرجل يقاتل للذكر } ، أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة . قوله : ( ويقاتل رياء ) في رواية البخاري : { والرجل يقاتل ليرى مكانه } ، ومرجعه إلى الرياء ، والمراد بالمقاتلة لأجل الحمية أن يقاتل لمن يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب .

ويحتمل أن تفسر الحمية بالقتال لدفع المضرة ، والقتال غضبا لجلب المنفعة . وفي رواية للبخاري : { والرجل يقاتل للمغنم } ، وفي أخرى له : { والرجل يقاتل غضبا } . والحاصل من الروايات أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء : طلب المغنم ، وإظهار الشجاعة ، والرياء ، والحمية ، والغضب ، وكل منها يتناوله المدح والذم ، ولهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي .

قوله : { من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } المراد بكلمة الله : دعوة الله إلى الإسلام ، ويحتمل أن يكون المراد به أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط ، يعني أنه لو أضاف إلى ذلك سببا من الأسباب المذكورة أخل به . وصرح الطبري بأنه لا يخل إذا حصل ضمنا لا أصلا ومقصودا ، وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب الفتح ، ولكنه يعكر على هذا ما في حديث أبي أمامة المذكور من أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا ، ويمكن أن يحمل على قصد الأمرين معا على حد واحد فلا يخالف ما قاله الجمهور . فالحاصل أنه إما أن يقصد الشيئين معا أو يقصد أحدهما فقط ، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنا ، والمحذور أن يقصد غير الإعلاء ، سواء حصل الإعلاء ضمنا أو لم يحصل ، ودونه أن يقصدهما معا فإنه محذور على ما دل عليه حديث أبي أمامة والمطلوب أن يقصد الإعلاء فقط سواء حصل غير الإعلاء ضمنا أو لم يحصل .

قال ابن أبي جمرة ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما ينضاف إليه وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة الذي ذكرناه ، وأما حديث عبد الله بن عمرو المذكور فليس فيه ما يدل على جواز قصد غير الغزو في سبيل الله ، لأن الغنيمة إنما حصلت بعد أن كان الغزو في سبيل الله ولم يكن مقصوده في الابتداء ، ولهذا قال في أول الحديث : { ما من غازية تغزو في سبيل الله } . . . إلخ . قال في الفتح : والحاصل مما ذكر أن القتال منشؤه القوة العقلية والقوة الغضبية والقوة الشهوانية ولا يكون في سبيل الله إلا الأول .

وقال ابن بطال : إنما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع ، فأفاد رفع الالتباس وزيادة الإفهام .

وفيه بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة ، وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين يختص بمن ذكر . [ ص: 255 ]

3253 - ( وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ولكن قاتلت أن يقال جريء فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى يلقى في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ، حتى ألقي في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار } رواه أحمد ومسلم ) .

3254 - ( وعن أبي أيوب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { ستفتح عليكم الأمصار ، وستكونون جنودا مجندة يقطع عليكم بعوث فيكره الرجل منكم البعث فيها فيتخلص من قومه ، ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه عليهم يقول : من أكفيه بعث كذا ، من أكفيه بعث كذا ، ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه } . رواه أحمد وأبو داود ) .

3255 - ( وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي } . رواه أبو داود ) .

3256 - ( وعن زيد بن خالد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا } . متفق عليه ) .

حديث أبي أيوب سكت عنه أبو داود والمنذري ، وفي إسناده أبو سورة ابن أخي أبي أيوب وفيه ضعف ، وكذلك حديث عبد الله بن عمر وسكتا عنه ، ورجال إسناده ثقات . قوله : ( إن أول الناس . . . إلخ ) لفظ الترمذي : { أول ما يدعى به يوم القيامة رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال ، فيقول الله تعالى للقارئ : ألم [ ص: 256 ] أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ فيقول : بلى يا رب ، قال : فما عملت فيما علمت ؟ فيقول : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله تعالى : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت إنما أردت أن يقال فلان قارئ ، وقد قيل ذلك } ، وذكر نحو ذلك في الذي قتل في سبيل الله ، والذي له مال كثير .

قوله : ( نعمه ) بكسر النون وفتح العين المهملة : جمع نعمة بسكون العين . وهذا الحديث فيه دليل على أن فعل الطاعات العظيمة مع سوء النية من أعظم الوبال على فاعله ، فإن الذي أوجب سحبه في النار على وجهه هو فعل تلك الطاعة المصحوبة بتلك النية الفاسدة ، وكفى بهذا رادعا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . اللهم إنا نسألك صلاح النية وخلوص الطوية .

وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقول الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه } وأخرج الترمذي عن كعب بن مالك قال : سمعت رسول الله يقول : { من طلب العلم ليجاري به العلماء ويماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار } وأخرج الترمذي أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تعوذوا بالله من جب الحزن ، قالوا يا رسول الله وما جب الحزن ؟ قال : واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم مائة مرة . قيل : يا رسول الله ومن يدخله ؟ قال : القراء المراءون بأعمالهم }

وأخرج الترمذي أيضا عن أبي هريرة وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يكون في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين ، يلبسون للناس جلود الضأن ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، يقول الله تعالى : أبي تغترون أم علي تجترئون ، فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران } وأخرج الشيخان عن أبي وائل قال : سمعت أسامة يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فتجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فيقول : بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه } وأخرج الحاكم من حديث معاذ يرفعه قال { إن يسير الرياء شرك } قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولا يحفظ له علة .

وأخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث عائشة مرفوعا { الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل } وفي الباب عن أبي سعيد رواه أحمد . وعن أبي موسى وأبي بكر وحذيفة ومعقل بن يسار رواها الهيثمي .

وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : { من سمع بعلمه سمع الله به سامع خلقه وصغره وحقره } . قوله : ( بعوث ) جمع بعث : وهو طائفة من الجيش يبعثون في الغزو كالسرية ، وفيه دليل على أنه يحرم على الرجل أن يمتنع من الخروج إلى [ ص: 257 ] الغزو مع قومه ثم يذهب يعرض نفسه على غير قومه ممن طلبوا إلى الغزو ليكون عوضا عن أحدهم بالأجرة ، فإن من فعل ذلك كان خروجه للدنيا لا للدين ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : { فهو الأجير إلى آخر قطرة من دمه } : أي لا يكون في سبيل الله من دمه شيء ، بل في سبيل ما أخذه من الأجرة .

قوله : ( وللجاعل أجره وأجر الغازي ) فيه دليل على أنه لا يستحق أجر الغزو من خرج بالأجرة بل يكون أجره للمستأجر وهو الذي أعطاه الجعالة : أي ما جعله له من الأجرة ويكون ذلك أي أجر المجعول له منضما إلى أجر الجاعل إذا كان غازيا ، وإن لم يكن غازيا فله أجر الذي دفعه من الأجرة وأجر المجعول له . قوله : ( من جهز غازيا ) أي هيأ له أسباب سفره وما يحتاج إليه مما لا بد منه . قوله : ( فقد غزا ) قال ابن حبان : معناه أنه مثله في الأجر وإن لم يغز حقيقة . ثم أخرج الحديث من وجه آخر بلفظ : { كتب له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيء } .

وأخرج ابن ماجه وابن حبان أيضا من حديث ابن عمر بلفظ : { من جهز غازيا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع } وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا ، وقال : ليخرج من كل رجلين رجل والأجر بينهما } وفي رواية له { ثم قال للقاعد : أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج } ففيه إشارة إلى أن الغازي إذا جهز نفسه وقام بكفاية من يخلفه بعد كان له الأجر مرتين .

وقال القرطبي : لفظة نصف يحتمل أن تكون مقحمة من بعض الرواة . وقد احتج بهذا من ذهب إلى أن المراد بالأحاديث التي وردت بمثل ثواب الفعل حصول أصل الأجر له بغير تضعيف ، وأن التضعيف يختص بمن باشر العمل . قال : ولا حجة له في هذا الحديث لوجهين : أحدهما : أنه لا يتناول محل النزاع ; لأن المطلوب إنما هو أن الدال على الخير مثلا هل له مثل أجر فاعله مع التضعيف أو بغير تضعيف ؟ والحديث المذكور إنما يقتضي المشاركة والمشاطرة فافترقا . ثانيهما : ما تقدم من احتمال كون لفظة نصف زائدة . قال الحافظ : لا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح ، والذي يظهر في توجيهها أنها أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير ، فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر فلا تعارض بين الحديثين .

وأما من وعد بمثل ثواب العمل وإن لم يعمله إذا كان له فيه دلالة أو مشاركة أو نية صالحة فليس على إطلاقه في عدم التضعيف لكل أحد ، وصرف الخبر عن ظاهره يحتاج إلى مستند ، وكأن مستند القائل : أن العامل يباشر المشقة بنفسه بخلاف الدال ونحوه ، لكن من يجهز الغازي بماله مثلا ، وكذا من يخلفه فيمن ترك بعده يباشر شيئا من المشقة ، أيضا فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفى ذلك العمل فصار [ ص: 258 ] كأنه يباشر معه الغزو بخلاف من اقتصر على النية مثلا . انتهى . قوله : ( ومن خلفه في أهله بخير ) بفتح الخاء المعجمة واللام الخفيفة أي قام بحال من يتركه .

التالي السابق


الخدمات العلمية