صفحة جزء
باب استئذان الأبوين في الجهاد 3257 - ( عن ابن مسعود قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : الصلاة على وقتها ، قلت : ثم أي ؟ ، قال : بر الوالدين ، قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله حدثني بهن ، ولو استزدته لزادني } . متفق عليه ) .

3258 - ( وعن عبد الله بن عمرو قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد ، فقال : أحي والداك ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد } . رواه البخاري والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه ) .

3259 - ( وفي رواية : { أتى رجل فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم جئت أريد الجهاد معك ، ولقد أتيت وإن والدي يبكيان ، قال : فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما } . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ) .

3260 - ( وعن أبي سعيد { أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن ، فقال : هل لك أحد باليمن ؟ فقال أبواي فقال : أذنا لك ؟ فقال : لا قال : ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما } . رواه أبو داود ) .

3261 - ( وعن معاوية بن جاهمة السلمي { أن جاهمة السلمي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك ، فقال : هل لك من أم ؟ قال : نعم ، فقال : الزمها فإن الجنة عند رجليها } . رواه أحمد والنسائي ، وهذا كله إن لم يتعين عليه الجهاد ، فإذا تعين فتركه معصية ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل ) .


[ ص: 259 ] الرواية الثانية من حديث عبد الله بن عمرو أخرجها أيضا النسائي وابن حبان ، وأخرجها أيضا مسلم وسعيد بن منصور من وجه آخر في نحو هذه القصة . قال : " ارجع إلى والدتك فأحسن صحبتها " . وحديث أبي سعيد صححه ابن حبان . وحديث معاوية بن جاهمة أخرجه أيضا البيهقي من طريق ابن جريج عن محمد بن طلحة بن ركانة عن معاوية . وقد اختلف في إسناده على محمد بن طلحة اختلافا كثيرا ، ورجال إسناد النسائي ثقات إلا محمد بن طلحة وهو صدوق يخطئ . قوله : ( أي العمل أحب إلى الله ؟ ) في رواية للبخاري وغيره " أي العمل أفضل ؟ " وظاهره أن الصلاة أحب الأعمال وأفضلها .

قال في الفتح : وحاصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث ونحوه مما اختلف فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال ، أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه أو بما لهم فيه رغبة ، أو بما هو لائق بهم ، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره ، فقد كان الجهاد في أول الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها . وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة . ومع ذلك ففي وقت مواساة الفقراء المضطرين تكون الصدقة أفضل ، أو أن أفضل ليست على بابها ، بل المراد بها الفضل المطلق أو المراد من أفضل الأعمال فحذفت من وهي مرادة .

وقال ابن دقيق العيد : الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية ، وأريد بذلك الاحتراز عن الإيمان لأنه من أعمال القلوب فلا تعارض بينه وبين حديث أبي هريرة { أفضل الأعمال إيمان بالله } ، الحديث . وقال غيره : المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين لأنه يتوقف على إذن الوالدين فيكون برهما مقدما عليه . قوله : ( الصلاة على وقتها ) قال ابن بطال : فيه أن البدار إلى الصلاة في أول الوقت أفضل من التراخي فيها لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب . قال الحافظ : وفي أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظر . قال ابن دقيق العيد : ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولا ولا آخرا ، وكان المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء

وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم ، ولفظ أحب يقتضي المشاركة في الاستحباب فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت . وأجيب بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال ، فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله من غيرها من الأعمال فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارجة عن وقتها من معذور كالنائم والناسي ، فإن إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال مع كونه محبوبا لكن إيقاعها في الوقت أحب . وقد روى الحديث الدارقطني والحاكم والبيهقي بلفظ : " الصلاة في أول وقتها " وهذا اللفظ مما تفرد به علي بن حفص [ ص: 260 ] وهو شيخ صدوق من رجال مسلم . قال الدارقطني : ما أحسبه حفظه لأنه كبر وتغير حفظه . قال الحافظ : ورواه الحسين المعمري في اليوم والليلة عن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة كذلك . قال الدارقطني : تفرد به المعمري ، فقد رواه أصحاب أبي موسى عنه بلفظ " على وقتها " ثم أخرجه الدارقطني عن المحاملي عن أبي موسى كرواية الجماعة ، وكذا رواه أصحاب غندر عنه ، والظاهر أن المعمري وهم فيه لأنه كان يحدث من حفظه . وقد أطلق النووي في شرح المهذب أن رواية " في أول وقتها " ضعيفة . وتعقبه الحافظ بأن لها طريقا أخرى أخرجها ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وغيرهما من طريق عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن الوليد ، وتفرد عثمان بذلك ، والمعروف عن مالك بن مغول كرواية الجماعة ، وكأن من رواها كذلك ظن أن المعنى واحد ، ويمكن أن يكون أخذه من لفظة على لأنها تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت فتعين أوله ، والظاهر أن على بمعنى اللام أي لوقتها . قال القرطبي وغيره : إن اللام في لوقتها للاستقبال مثل { فطلقوهن لعدتهن } أي مستقبلات عدتهن ، وقيل : للابتداء كقوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وقيل : بمعنى في أي في وقتها ، وقيل : إنها لإرادة الاستعلاء على الوقت ، وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه . قوله : ( ثم أي ) قيل : الصواب أنه غير منون لأنه موقوف عليه في الكلام والسائل ينتظر الجواب ، والتنوين لا يوقف عليه فتنوينه ووصله بما بعده خطأ فيوقف عليه ثم يؤتى بما بعده . قال الفاكهاني : وحكى ابن الجوزي وابن الخشاب الجزم بتنوينه لأنه معرب غير مضاف . وتعقب بأنه مضاف تقديرا والمضاف إليه محذوف لفظا ، والتقدير ثم أي العمل أحب فوقف عليه بلا تنوين . قوله : ( بر الوالدين ) كذا للأكثر ، وللمستملي ثم بر الوالدين بزيادة ثم ، وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين وأن أعمال البدن يفضل بعضها على بعض .

وفيه فوائد غير ذلك . قوله : ( ففيهما فجاهد ) أي خصصهما بجهاد النفس في رضاهما . قال في الفتح : ويستفاد منه جواز التعبير عن الشيء بضده إذا فهم المعنى ، لأن صيغة الأمر في قوله : فجاهد ، ظاهرها إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما بهما ، وليس ذلك مرادا قطعا وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد وهو تعب البدن وبذل المال ، ويؤخذ منه أن كل شيء يتعب النفس يسمى جهادا . ا هـ . ولا يخفى أن كون المفهوم من تلك الصيغة إيصال الضرر بالأبوين إنما يصح قبل دخول لفظ " في " عليها ، وأما بعد دخولها كما هو الواقع في الحديث فليس ذلك المعنى هو المفهوم منها ; فإنه لا يقال : جاهد في الكفار بمعنى جاهدهم ، كما يقال جاهد في الله ، فالجهاد الذي يراد منه إيصال الضرر لمن وقعت المجاهدة له هو جاهده لا جاهد فيه وله .

وفي الحديث دليل على أن بر الوالدين قد يكون أفضل من الجهاد . قوله : ( فإن [ ص: 261 ] أذنا فجاهد ) فيه دليل على أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد ، وبذلك قال الجمهور ، وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع منه الأبوان أو أحدهما ، لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية ، فإذا تعين الجهاد فلا إذن ، ويشهد له ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو قال : { جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال ؟ قال : الصلاة ، قال : ثم مه ؟ قال : الجهاد ، قال : فإن لي والدين ، فقال : آمرك بوالديك خيرا ، فقال : والذي بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهم ا قال : فأنت أعلم } وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الحديثين ، وهذا بشرط أن يكون الأبوان مسلمين وهل يلحق بهم الجد والجدة ؟ الأصح عند الشافعية ذلك ، وظاهره عدم الفرق بين الأحرار والعبيد .

قال في الفتح : واستدل بالحديث على تحريم السفر بغير إذنهما ، لأن الجهاد إذا منع منه مع فضيلته فالسفر المباح أولى ، نعم إن كان سفره لتعلم فرض عين حيث يتعين السفر طريقا إليه فلا منع ، وإن كان فرض كفاية ففيه خلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية