صفحة جزء
باب الكذب في الحرب 3337 - ( عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله . قال محمد بن مسلمة : أتحب أن أقتله يا رسول الله ؟ قال : [ ص: 301 ] نعم ، قال : فأذن لي فأقول قال : قد فعلت ، قال : فأتاه فقال : إن هذا ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد عنانا وسألنا الصدقة ، قال : وأيضا والله قال : فإنا قد اتبعناه ، فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره ، قال : فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله } . متفق عليه ) .

3338 - ( وعن أم كلثوم بنت عقبة قالت : { لم أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب مما تقول الناس ، إلا في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود ) .


حديث جابر هو في بعض الروايات كما ساقه المصنف مختصرا ، وفي بعضها أنه قال له بعد قوله : { حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمره : قد أردت أن تسلفني سلفا ، قال : فما ترهنني ترهنني نساءكم قال : أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا ؟ قال : فترهنون أبناءكم ، قال يسب ابن أحدنا فيقال : رهن في وسق أو وسقين من تمر ، ولكن نرهنك اللأمة يعني السلاح ، قال : نعم وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر ، قال فجاءوا فدعوه ليلا فنزل إليهم ، فقالت له امرأته : إني لأسمع صوتا كأنه صوت الدم ، فقال : إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة ، إن الكريم إذا دعي إلى طعنة ليلا أجاب قال محمد : إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم ، قال : فنزل وهو متوشح فقالوا : نجد منك ريح الطيب ، فقال : نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب ، فقال محمد : أفتأذن لي أن أشم منك قال : نعم فشم ثم قال : أتأذن لي أن أعود قال : نعم ، فاستمكن منه ثم قال : دونكم ، فقتلوه } . أخرجه الشيخان وأبو داود .

وحديث أم كلثوم هو أيضا في صحيح البخاري في كتاب الصلح منه ولكنه مختصر . وقد ورد في معنى حديث أم كلثوم أحاديث أخر منها حديث أسماء بنت يزيد عند الترمذي ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا أيها الناس ما يحملكم أن تتابعوا على الكذب كتتابع الفراش في النار ، الكذب كله على ابن آدم حرام إلا في ثلاث خصال : رجل كذب على امرأته ليرضيها ، ورجل كذب في الحرب فإن الحرب خدعة ، ورجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما } والتتابع : التهافت في الأمر . والفراش الطائر : الذي يتواقع في ضوء السراج فيحترق . وأخرج مالك في الموطإ عن صفوان بن سليم الزرقي { أن رجلا قال : يا رسول الله أكذب امرأتي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم لا خير في الكذب قال : فأعدها وأقول لها ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا جناح عليك } .

وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته [ ص: 302 ] في استخلاص ماله من أهل مكة ، وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين . وأخرج الطبراني في الأوسط : { الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم ، أو دفع به عن دين } وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين في كتاب الله تعالى قوله : { إني سقيم } وقوله : { بل فعله كبيرهم هذا } وواحدة في شأن سارة الحديث } .

قوله : ( فأذن لي فأقول ) أي أقول ما لا يحل في جانبك . قوله : ( عنانا ) بفتح العين المهملة وتشديد النون الأولى : أي كلفنا بالأوامر والنواهي . وقوله : " سألنا الصدقة " أي طلبها منا ليضعها مواضعها . وقوله : " فنكره أن ندعه " . . . إلخ معناه نكره فراقه ، والحديث المذكور قد استدل به على جواز الكذب في الحرب وكذلك بوب عليه البخاري باب الكذب في الحرب . قال ابن المنير : الترجمة غير مطابقة ، لأن الذي وقع بينهم في قتل كعب بن الأشرف يمكن أن يكون تعريضا ، ثم ذكر أن الذي وقع في حديث الباب ليس فيه شيء من الكذب وأن معنى ما في الحديث هو ما ذكرناه في تفسير ألفاظه وهو صدق . قال الحافظ : والذي يظهر أنه لم يقع منهم فيما قالوه شيء من الكذب أصلا ، وجميع ما صدر منهم تلويح كما سبق ، لكن ترجم يعني البخاري لقول محمد بن مسلمة أولا ائذن لي أن أقول ، قال : قل ، فإنه يدخل فيه الإذن في الكذب تصريحا وتلويحا .

قوله : ( إلا في الحرب . . . إلخ ) قال الطبري : ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح ، وقالوا : إن الثلاث المذكورة كالمثال ، وقالوا : إن الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة وليس فيه مصلحة . وقال آخرون : لا يجوز الكذب في شيء مطلقا ، وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن يقول للظالم : دعوت لك أمس ، هو يريد قوله : اللهم اغفر للمسلمين ، ويعد امرأته بعطية شيء ويريد إن قدر الله ذلك ، وأن يظهر من نفسه قوة قلب ، وبالأول جزم الخطابي ، وبالثاني جزم المهلب والأصيلي وغيرهما . قال النووي : الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة لكن التعريض أولى . وقال ابن العربي : الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا ، انتهى .

ويقوي ذلك حديث الحجاج بن علاط المذكور ولا يعارض ما ورد في جواز الكذب في الأمور المذكورة ما أخرجه النسائي من طريق مصعب بن سعد عن أبيه في قصة عبد الله بن أبي سرح وقول الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم لما كف عن بيعته هلا أومأت إلينا بعينك قال { ما ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين } لأن طريق الجمع بينهما أن المأذون فيه بالخداع والكذب في الحرب حالة الحرب خاصة ، وأما حالة المبايعة فليست بحالة حرب كذا قيل وتعقب بأن قصة الحجاج بن علاط أيضا لم تكن [ ص: 303 ] في حال حرب قال الحافظ والجواب المستقيم أن يقال المنع مطلقا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتعاطى شيئا من ذلك وإن كان مباحا لغيره ولا يعارض ذلك ما تقدم من أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها فإن المراد أنه كان يريد أمرا فلا يظهره كأن يريد أن يغزو جهة المشرق فيسأل عن أمر في جهة الغرب ويتجهز للسفر فيظن من يراه ويسمعه أنه يريد جهة المغرب ، وأما أنه يصرح بإرادته المغرب ومراده المشرق فلا .

قال ابن بطال : سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث فقال الكذب المباح في الحرب ما يكون في المعاريض لا التصريح بالتأمين مثلا . وقال المهلب لا يجوز الكذب الحقيقي في شيء من الدين أصلا قال : ومحال أن يأمر بالكذب من يقول : { من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار } ويرده ما تقدم . قال الحافظ : واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها وكذا في الحرب في غير التأمين واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم . انتهى . وقال القاضي زكريا : وضابط ما يباح من الكذب وما لا يباح أن الكلام وسيلة إلى المقصود فكل مقصود محمود إن أمكن التوصل إليه بالصدق فالكذب فيه حرام وإن لم يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحا وواجب إن كان المقصود واجبا . انتهى .

والحق أن الكذب حرام كله بنصوص القرآن والسنة من غير فرق بين ما كان منه في مقصد محمود أو غير محمود ولا يستثنى منه إلا ما خصه الدليل من الأمور المذكورة في أحاديث الباب نعم إن صح ما قدمنا عن الطبراني في الأوسط كان من جملة المخصصات لعموم الأدلة القاضية بالتحريم على العموم .

التالي السابق


الخدمات العلمية