صفحة جزء
باب أن السلب للقاتل وأنه غير مخموس [ ص: 308 ] ( عن أبي قتادة قال : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة ، قال : فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب ، فقال : ما للناس ؟ فقلت : أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ، قال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال مثل ذلك ، قال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال ذلك الثالثة ، فقمت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لك يا أبا قتادة ؟ فقصصت عليه القصة ، فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله ، سلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه ، فقال أبو بكر الصديق : لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق ، فأعطه إياه فأعطاني ، قال : فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة ، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام } متفق عليه ) .

3347 - ( وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين : { من قتل رجلا فله سلبه ، فقتل أبو طلحة عشرين رجلا وأخذ أسلابهم } . رواه أحمد وأبو داود .

وفي لفظ : { من تفرد بدم رجل فقتله فله سلبه ، قال : فجاء أبو طلحة بسلب أحد وعشرين رجلا } . رواه أحمد ) .

3348 - ( وعن عوف بن مالك أنه قال لخالد بن الوليد : أما علمت { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى } . رواه مسلم ) .

3349 - ( وعن عوف وخالد أيضا { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب } . رواه أحمد وأبو داود ) .


حديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح ، وتمامه : [ ص: 309 ] { ولقي أبو طلحة أم سليم ومعها خنجر ، فقال : يا أم سليم ما هذا الذي معك ؟ قالت : أردت والله إن دنا مني بعضهم أبعج به بطنه ، فأخبر بذلك أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم } .

وأخرج قصة أم سليم مسلم أيضا .

وحديث عوف وخالد أنه صلى الله عليه وسلم { لم يخمس السلب } أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني . قال الحافظ بعد ذكره في التلخيص ما لفظه : وهو ثابت في صحيح مسلم في حديث طويل فيه قصة عوف بن مالك مع خالد بن الوليد وفيه نظر ، فإن هذا اللفظ الذي هو محل الحجة لم يكن في صحيح مسلم ، بل الذي هو فيه ما سيأتي قريبا ، وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش وفيه كلام معروف قد تقدم ذكره مرارا . قوله : ( جولة ) بفتح الجيم وسكون الواو : أي حركة فيها اختلاط ، وهذه الجولة كانت قبل الهزيمة . قوله : ( فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ) قال الحافظ : لم أقف على اسميهما . قوله : ( على حبل عاتقه ) حبل العاتق عصبه ، والعاتق : موضع الرداء من المنكب . قوله : ( وجدت منها ريح الموت ) أي من شدتها ، وأشعر ذلك بأن هذا المشرك كان شديد القوة جدا .

قوله : ( فأرسلني ) أي أطلقني . قوله : ( فلحقت عمر بن الخطاب . . . إلخ ) في السياق حذف تبينه الرواية الأخرى من حديثه في البخاري وغيره بلفظ : " ثم قتلته وانهزم المسلمون وانهزمت معهم ، فإذا بعمر بن الخطاب " . قوله : ( أمر الله ) أي حكم الله وما قضى به . قوله : ( فله سلبه ) السلب بفتح المهملة واللام بعدها موحدة : هو ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عند الجمهور . وعن أحمد : لا تدخل الدابة ، وعن الشافعي يختص بأداة الحرب . وقد ذهب الجمهور أيضا إلى أن القاتل يستحق السلب ، سواء قال أمير الجيش قبل ذلك : { من قتل قتيلا فله سلبه } أم لا ؟ . وذهبت العترة والحنفية والمالكية إلى أنه لا يستحقه القاتل إلا إن شرط له الإمام ذلك ، وروي عن مالك أنه يخير الإمام بين أن يعطي القاتل السلب أو يخمسه . واختاره القاضي إسماعيل . وعن إسحاق إذا كثرت الأسلاب خمست . وعن مكحول والثوري يخمس مطلقا .

وقد حكي عن الشافعي أيضا . وحكاه في البحر عن ابن عمر وابن عباس والقاسمية . وحكي أيضا عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي والإمام يحيى أنه لا يخمس . وحكي أيضا عن علي مثل قول إسحاق . واحتج القائلون بتخميس السلب بعموم قوله تعالى: { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية ، فإنه لم يستثن شيئا ، واستدل من قال : إنه لا خمس فيه بحديث عوف بن مالك وخالد المذكور في الباب وجعلوه مخصصا لعموم الآية . قوله : ( فقال رجل من القوم ) قال الواقدي : اسمه أسود من خزاعة . قال الحافظ : وفيه نظر ، لأن في الرواية الصحيحة أن الذي أخذ السلب قرشي . قوله : ( لاها الله ) قال الجوهري : ها للتنبيه ، وقد يقسم بها ، يقال : [ ص: 310 ] لاها الله ما فعلت كذا .

قال ابن مالك : فيه شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه ، قال : ولا يكون ذلك إلا مع الله : أي لم يسمع لاها الرحمن كما سمع لا والرحمن . قال : وفي النطق بها أربعة أوجه : أحدها : ها الله باللام بعد الهاء بغير إظهار شيء من الألفين . ثانيها : مثله لكن بإظهار ألف واحدة بغير همز كقولهم : التقت حلقتا البطان . ثالثها : ثبوت الألفين بهمزة قطع . رابعها : بحذف الألف وثبوت همزة القطع قال الحافظ : والمشهور في الرواية من هذه الأوجه الثالث ثم الأول . وقال أبو حاتم السجستاني : العرب تقول : لاهأ الله ذا بالهمزة والقياس ترك الهمزة .

وحكى ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع الله قال : والمعنى يأبى الله ، وقال غيره : إن ثبتت الرواية بالرفع فتكون ها للتنبيه والله مبتدأ و ( لا يعمد ) خبره ولا يخفى تكلفه . قال الحافظ : وقد نقل الأئمة الاتفاق على الجر فلا يلتفت إلى غيره . قال : وأما إذا فثبت في جميع الروايات المعتمدة والأصول المحققة من الصحيحين وغيرهما بكسر الألف ثم ذال معجمة منونة . وقال الخطابي : هكذا يروونه وإنما هو في كلامهم : أي العرب لاها الله ذا ، والهاء فيه بمنزلة الواو ، والمعنى لا والله يكون ذا . ونقل عياض في المشارق عن إسماعيل القاضي أن المازني قال : قول الرواة لاها الله إذا خطأ ، والصواب لاها الله ذا : أي ذا يميني وقسمي . وقال أبو زيد : ليس في كلامهم لاها الله إذا ، وإنما هو لاها الله ذا ، وذا صلة في الكلام والمعنى لا والله ، هذا ما أقسم به . ومنه أخذ الجوهري ; فقال : قولهم لاها الله ذا معناه لا والله هذا ، ففرقوا بين حرف التنبيه والصلة ، والتقدير لا والله ما فعلت ذا ، وتوارد كثير ممن تكلم على هذا الحديث ، على أن الذي وقع في الحديث بلفظ إذا خطأ ، وإنما هو ذا تبعا لأهل العربية ومن زعم أنه ورد في شيء من الروايات خلاف ذلك فلم يصب ، بل يكون ذلك من إصلاح من قلد أهل العربية .

وقد اختلف في كتابة إذا هذه هل تكتب بألف أو بنون ، وهذا الخلاف مبني على أنها اسم أو حرف ، فمن قال : هي اسم ، قال : الأصل فيمن قيل له سأجيء إليك ، فأجاب إذا أكرمك : أي إذا جئتني أكرمك ثم حذف جئتني وعوض عنه التنوين وأضمرت أن فعلى هذا تكتب بالنون . ومن قال : هي حرف وهم الجمهور واختلف ; فمنهم من قال : هي بسيطة وهو الراجح ، ومنهم من قال : مركبة من إذا وأن ، فعلى الأول تكتب بالألف وهو الراجح ، وبه وقع رسم المصاحف ، وعلى الثاني تكتب بنون . واختلف في معناها ، فقال سيبويه : معناها : الجواب والجزاء ، وتبعه جماعة فقالوا : هي حرف جواب يقتضي التعليل .

وأفاد أبو علي الفارسي : أنها قد تتمحض للتعليل ، وأكثر ما تجيء جواب لو وإن ظاهرا أو مقدرا . قال في الفتح : فعلى هذا لو ثبتت الرواية بلفظ إذا لاختل نظم الكلام لأنه يصير هكذا لا والله إذا لا يعمد [ ص: 311 ] إلى أسد . . . إلخ ، وكان حق السياق أن يقول : إذا يعمد : أي لو أجابك إلى ما طلبت لعمد إلى أسد . . . إلخ ، وقد ثبتت الرواية بلفظ " لا يعمد . . . إلخ " فمن ثم ادعى من ادعى أنها تغيير . ولكن قال ابن مالك : وقع في الرواية إذا بألف وتنوين وليس ببعيد ، وقال أبو البقاء : هو بعيد ، ولكن يمكن أن يوجه بأن التقدير لا والله لا يعطى إذا ، ويكون لا يعمد . . . إلخ تأكيدا للنفي المذكور وموضحا للسبب فيه .

وقال الطيبي : ثبتت في الرواية " لاها الله إذا " فحمله بعض النحويين على أنه من تغيير بعض الرواة ، لأن العرب لا تستعمل لاها الله بدون ذا ، وإن سلم استعماله بدون ذا فليس هذا موضع إذا لأنها حرف جزاء ، ومقتضى الجزاء أن لا يذكر لا في قوله " لا يعمد " بل كانوا يقولون : " إذا يعمد إلى أسد . . . إلخ ، ليصح جوابا لطالب السلب . قال : والحديث صحيح والمعنى صحيح ، وهو كقولك لمن قال لك : افعل كذا ، فقلت له : والله إذا لا أفعل ، فالتقدير والله إذا لا يعمد إلى أسد . قال : ويحتمل أن تكون إذا زائدة كما قال أبو البقاء : إنها زائدة في قول الحماسي :

إذا لقام بنصري معشر خشن

في جواب قوله

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

. قال : والعجب ممن يعتني بشرح الحديث ، ويقدم نقل بعض الأدباء على أئمة الحديث وجهابذته ، بذاته ، وينسبون إليه الغلط والتصحيف ؟ ولا أقول إن جهابذة المحدثين أعدل وأتقن في النقل إذ يقتضي المشاركة بينهم ، بل أقول : لا يجوز العدول عنهم في النقل إلى غيرهم ، وقد سبقه إلى مثل ذلك القرطبي في المفهم فإنه قال : وقع في رواية في مسلم " لاها الله ذا " بغير ألف ولا تنوين ، وهو الذي جزم به من ذكرناه ، يعني من قدم النقل عنه من أئمة العربية .

قال : والذي يظهر لي أن الرواية المشهورة صواب وليست بخطإ ، وذلك أن هذا الكلام وقع على جواب إحدى الكلمتين للأخرى ، والهاء هي التي عوض بها عن واو القسم ، وذلك أن العرب تقول في القسم : آلله لأفعلن بمد الهمزة وبقصرها ، فكأنهم عوضوا عن الهمزة هاء فقالوا : ها الله لتقارب مخرجيهما ، وكذلك قالوها بالمد والقصر ، وتحقيقه أن الذي مد مع الهاء كأنه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما ألفا استثقالا لاجتماعهما كما يقول : آلله . والذي قصر كأنه نطق بهمزة واحدة كما يقول : الله ، وأما إذا فهي بلا شك حرف جواب وتعليل وهي مثل التي وقعت في قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال : { أينقص الرطب إذا جف ؟ قالوا : نعم ، قال : فلا إذا } فلو قال : فلا والله إذا لكان مساويا لما وقع هنا وهو لا الله إذا من كل وجه ، ولكنه لم يحتج إلى القسم فتركه ، قال : فقد وضح تقرير الكلام ومناسبته واستقامته معنى ووضعا من غير حاجة إلى تكلف بعيد يخرج عن البلاغة ، ولا سيما من ارتكب أبعد وأفسد ، [ ص: 312 ] فجعل الهاء للتنبيه وذا للإشارة وفصل بينهما بالمقسم به .

قال : وليس هذا قياسا فيطرد ولا فصيحا فيحمل عليه الكلام النبوي ولا مرويا برواية ثابتة . قال : وما وجد للعذري وغيره في مسلم فإصلاح ممن اغتر بما حكي عن أهل العربية ، والحق أحق أن يتبع . قال في الفتح : قال أبو جعفر الغرناطي في حاشية نسخته من البخاري : استرسل جماعة من القدماء في هذا الإشكال إلى أن جعلوا المخلص منه أن اتهموا الأثبات بالتصحيف فقالوا : والصواب لا ها الله ذا باسم الإشارة . قال : ويا عجباه من قوم يقبلون التشكيك على الروايات الثابتة ويطلبون لها تأويلا ، وجوابهم أن ها الله لا يستلزم اسم الإشارة كما قال ابن مالك ، وأما جعل لا يعمد جواب " فأرضه " فهو سبب الغلط وليس بصحيح ممن زعمه ، وإنما هو جواب شرط مقدر يدل عليه قوله " صدق فأرضه " فكأن أبا بكر قال : إذا صدق في أنه صاحب السلب ، إذ لا يعمد إلى السلب فيعطيك حقه فالجزاء على هذا صحيح ، لأن صدقه سبب أن لا يفعل ذلك ، قال : وهذا لا تكلف فيه انتهى .

قال الحافظ في الفتح : وهو توجيه حسن والذي قبله أعقد . ويؤيد ما رجحه من الاعتماد على ما ثبتت به الرواية كثرة وقوع هذه الجملة في كثير من الأحاديث : منها ما وقع في حديث عائشة في قصة بريرة لما ذكرت أن أهلها يشترطون الولاء ، قالت : فانتهرتها ، فقلت : لا ها الله إذا . ومنها ما وقع في حديث جليبيب { أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عليه امرأة من الأنصار إلى أبيها ، فقال : حتى أستأمر أمها ، فقال : فنعم إذا ، قال : فذهب إلى امرأته فذكر لها ذلك ، فقالت : لا ها الله إذا وقد منعناها فلانا } الحديث صححه ابن حبان من حديث أنس . ومنها ما أخرجه أحمد في الزهد ، قال مالك بن دينار للحسن : يا أبا سعيد أوليست مثل عباءتي هذه ؟ قال : لاها الله إذا لا ألبس مثل عباءتك هذه ، وغير ذلك من الأحاديث .

والراجح أن ذا الواقعة في حديث الباب وما شابهه حرف جواب وجزاء ، والتقدير لا والله حينئذ ثم أراد بيان السبب في ذلك فقال : " لا يعمد إلى أسد . . . إلخ " .

قوله : ( لا يعمد . . . إلخ ) معناه لا يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل كأنه أسد في الشجاعة يقاتل عن دين الله ورسوله فيأخذ حقه ويعطيك بغير طيبة من نفسه ، هكذا ضبط للأكثر بالتحتانية في يعمد وفي يعطيك ، وضبطه النووي بالنون فيهما . قوله : ( فيعطيك سلبه ) أي سلب قتيله وأضافه إليه باعتبار أنه ملكه . قوله : ( فابتعت به ) ذكر الواقدي : أن الذي اشتراه منه حاطب بن أبي بلتعة وأن الثمن كان سبع أواق .

قوله : ( مخرفا ) بفتح الميم والراء ويجوز كسر الراء : أي بستانا سمي بذلك لأنه يخترف منه التمر : أي يجتنى ، وأما بكسر الميم فهو اسم الآلة التي يخترف بها . قوله : ( في بني سلمة ) بكسر اللام ، وهم بطن من الأنصار من قوم أبي قتادة . قوله : ( تأثلته ) بمثناة ثم مثلثة : أي أصلته ، [ ص: 313 ] وأثلة كل شيء : أصله . قوله : ( من تفرد بدم رجل ) فيه دليل على أنه لا يستحق السلب إلا من تفرد بقتل المسلوب ، فإن شاركه في ذلك غيره كان السلب لهما . قوله : ( لم يخمس السلب ) فيه دليل لمن قال : إنه لا يخمس السلب ، وقد تقدم الخلاف في ذلك

3350 - ( وعن عوف بن مالك قال : { قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه ، فمنعه خالد بن الوليد وكان واليا عليهم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك فأخبره بذلك ، فقال لخالد : ما منعك أن تعطيه سلبه ؟ فقال : استكثرته يا رسول الله ، قال : ادفعه إليه فمر خالد بعوف فجر بردائه ، ثم قال : هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغضب ، فقال : لا تعطه يا خالد ، هل أنتم تاركون لي أمرائي ؟ ، إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعي إبلا وغنما فرعاها ، ثم تحين سقيها فأوردها حوضا فشرعت فيه فشربت صفوه ، وتركت كدره ، فصفوه لكم وكدره عليهم } . رواه أحمد ومسلم .

وفي رواية قال : { خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن ، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب ، فجعل الرومي يفري في المسلمين ، فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ السلب ، قال عوف : فأتيته فقلت : يا خالد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى ولكن استكثرته ، قلت : لتردنه إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يرد عليه ، قال عوف : فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد ، وذكر بقية الحديث بمعنى ما تقدم } . رواه أحمد وأبو داود ، وفيه حجة لمن جعل السلب المستكثر إلى الإمام وأن الدابة من السلب ) .

3351 - ( وعن سلمة بن الأكوع قال : { غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن ، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه ، ثم انتزع طلقا من جعبته فقيد به الجمل ثم تقدم فتغدى مع القوم وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة من الظهر وبعضنا مشاة ، إذ خرج يشتد فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه فقعد عليه فأثاره ، [ ص: 314 ] فاشتد به الجمل ، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء ، قال سلمة : فخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة ، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته ، فلما وضع ركبتيه في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر ، ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه ، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه ، فقال : من قتل الرجل ؟ فقالوا : سلمة بن الأكوع قال : له سلبه أجمع } . متفق عليه ) .

قوله : ( رجل من حمير ) هو المددي المذكور في الرواية الثانية . قوله : ( لا تعطه يا خالد ) فيه دليل على أن للإمام أن يعطي السلب غير القاتل لأمر يعرض فيه مصلحة من تأديب أو غيره . قوله : ( هل أنتم تاركون لي أمرائي ) فيه الزجر عن معارضة الأمراء ومغاضبتهم والشماتة بهم ، لما تقدم من الأدلة الدالة على وجوب طاعتهم في غير معصية الله . قوله : ( في غزوة مؤتة ) بضم الميم وسكون الواو بغير همز لأكثر الرواة وبه جزم المبرد ، ومنهم من همزها ، وبه جزم ثعلب والجوهري وابن فارس .

وحكى صاحب الواعي الوجهين ، وأما الموتة التي وردت الاستعاذة منها وفسرت بالجنون فهي بغير همز . قوله : ( مددي ) بفتح الميم ودالين مهملتين ، قال في النهاية : الأمداد جمع مدد وهم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد ، ومددي منسوب إليه . ا هـ . قوله : ( يفري ) بفتح أوله بعده فاء ثم راء ، والفري : شدة النكاية فيهم ، يقال : فلان يفري إذا كان يبالغ في الأمر ، وأصل الفري : القلع ، قال في القاموس : وهو يفري الفري كغني يأتي بالعجب في عمله ا هـ . قوله : ( فعرقب فرسه ) أي قطع عرقوبها . قال في القاموس : عرقبه : قطع عرقوبه . ا هـ . قوله : ( فبينا نحن نتضحى ) أي نأكل في وقت الضحى كما يقال نتغدى ذكر معنى ذلك في النهاية . قوله : ( من جعبته ) بالجيم والعين المهملة قال في النهاية : الجعبة : التي يجعل فيها النشاب ، والطلق بفتح اللام : قيد من جلود .

قوله : ( له سلبه أجمع ) فيه دليل على أن القاتل يستحق جميع السلب وإن كان كثيرا وعلى أن القاتل يستحق السلب في كل حال حتى قال أبو ثور وابن المنذر : يستحقه ولو كان المقتول منهزما . وقال أحمد : لا يستحقه إلا بالمبارزة . وعن الأوزاعي إذا التقى الزحفان فلا سلب . وقد اختلف إذا كان المقتول امرأة هل يستحق سلبها القاتل أم لا ؟ فذهب أبو ثور وابن المنذر إلى الأولى . وقال الجمهور : شرطه أن يكون المقتول من المقاتلة ، واتفقوا على أنه لا يقبل قول من ادعى السلب إلا ببينة تشهد له بأنه قتله ، والحجة في ذلك ما تقدم من قوله له صلى الله عليه وسلم : { من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه } فمفهومه أنه إذا لم يكن له [ ص: 315 ] بينة لا تقبل . وعن الأوزاعي يقبل قوله بغير بينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أبا قتادة بغير بينة ، وقد تقدم وفيه نظر ، لأنه وقع في مغازي الواقدي أن أوس بن خولي شهد لأبي قتادة ، وعلى تقدير أنه لا يصح فيحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه القاتل بطريق من الطرق ، وأبعد من قال من المالكية إن المراد بالبينة هنا الذي أقر له أن السلب عنده فهو شاهد . والشاهد الثاني وجود المسلوب فإنه بمنزلة الشاهد على أنه قتله ، ولذلك جعل لوثا في باب القسامة .

وقيل : إنما استحقه أبو قتادة بإقرار الذي هو بيده ، وهذا ضعيف ; لأن الإقرار إنما يفيد إذا كان المال منسوبا لمن هو بيده فيؤاخذ بإقراره ، والمال هنا لجميع الجيش . ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا يكفي فيها شاهد واحد . وقد اختلف في المرأة والصبي هل يستحقان سلب من قتلاه ؟ في ذلك وجهان قال الإمام يحيى أصحهما يستحقان لعموم { من قتل قتيلا فله سلبه } . قال في البحر : وإنما يستحق السلب حيث قتله والحرب قائمة ، لا لو قتله نائما أو فارا قبل مبارزته أو مشغولا بأكل ، ولا لو رماه بسهم إذ هو في مقابلة المخاطرة بالنفس ولا مخاطرة هنا ، ولا لو قتل أسيرا أو عزيلا عن السلاح ، ولا لو قتل من لا سطوة له كالمقعد والزمن ، فإن قطع يديه ورجليه استحق سلبه إذ قد كفى شره ، ولو جرحه رجل ثم قتله آخر فالسلب للآخر إذ لم يعط صلى الله عليه وسلم ابن مسعود سلب أبي جهل وقد جرحه بل قاتليه من الأنصار . قال فلو ضرب أحدهما يده والآخر رقبته فالسلب لضارب الرقبة إن لم تكن ضربة الآخر قاتلة وإلا اشتركا ، انتهى .

والمراد بالسلب : هو ما أجلب به المقتول من ملبوس ومركوب وسلاح ، لا ما كان باقيا في بيته . قال الإمام يحيى : ولا المنطقة والخاتم والسوار والجنيب من الخيل فليس بسلب . قال المهدي : بل المذهب أن كل ما ظهر على القتيل أو معه فهو سلب ، لا ما يخفي من جواهر أو دراهم أو نحوها . انتهى .

والظاهر من حديث الباب المؤكد بلفظ أجمع أنه يقال لكل شيء وجد مع المقتول وقت القتل سلب ، سواء كان مما يظهر أو يخفى . واختلفوا هل يدخل الإمام في العموم إذا قال " من قتل قتيلا فله سلبه " فذهب أبو حنيفة والهادوية إلى الأول لعموم اللفظ إلا لقرينة مخصصة نحو أن يقول : من قتل منكم .

وذهب الشافعي والمؤيد بالله في قول له : إنه لا يدخل ومرجع هذا إلى المسألة المعروفة في الأصول وهي هل يدخل المخاطب في خطاب نفسه أم لا ؟ وفي ذلك خلاف معروف .

3352 - ( وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال : { بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما ، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما ، فغمزني أحدهما فقال : يا عم هل تعرف أبا جهل ؟ قال : قلت : نعم ، [ ص: 316 ] وما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، قال : فعجبت لذلك ، فغمزني الآخر ، فقال مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس ، فقلت : ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه ، قال : فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه ، فقال : أيكما قتله ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته ، فقال : هل مسحتما سيفيكما ؟ قالا : لا . فنظر في السيفين ، فقال : كلاكما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء } . متفق عليه ) .

3353 - ( وعن ابن مسعود قال : { نفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر سيف أبي جهل كان قتله } . رواه أبو داود ولأحمد معناه ، وإنما أدرك ابن مسعود أبا جهل وبه رمق فأجهز عليه ، روى معنى ذلك أبو داود وغيره ) . حديث ابن مسعود هو من رواية ابنه أبي عبيدة عنه ، ولم يسمع منه كما تقدم غير مرة . . . ولفظ مسند أحمد الذي أشار إليه المصنف عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود { أنه وجد أبا جهل يوم بدر وقد ضربت رجله وهو صريع يذب الناس عنه بسيف له فأخذه عبد الله بن مسعود فقتله به ، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه } . قوله : ( حديثة أسنانهما ) بالجر صفة لغلامين ، وأسنانهم بالرفع . قوله : ( بين أضلع منهما ) من الضلاعة وهي القوة . قال في النهاية : معناه بين رجلين أقوى من اللذين كنت بينهما وأشد . ووقع في رواية الحموي : بين أصلح منهما بالصاد والحاء المهملتين . قوله : ( لا يفارق سوادي سواده ) السواد بفتح السين المهملة وهو الشخص . قوله : ( حتى يموت الأعجل منا ) أي الأقرب أجلا ، وقيل : إن لفظة الأعجل تصحيف ، وإنما هو الأعجر ، وهو الذي يقع في كلام العرب كثيرا ، قال في الفتح : والصواب ما وقع في الرواية لوضوح معناه .

قوله : ( فنظر في السيفين ) قال المهلب : نظره صلى الله عليه وسلم في السيفين واستلاله لهما ليرى ما بلغ الدم من سيفيهما ومقدار عمق دخولهما في جسم المقتول ليحكم لمن كان في ذلك أبلغ ، ولذلك سألهما أولا " هل مسحتما سيفيكما أم لا ؟ " لأنهما لو مسحاهما لما تبين المراد من ذلك . وقد استشكل ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من القضاء بالسلب لأحدهما بعد حكمه بأن كلا منهما قتله حتى استدل بذلك من قال : إن إعطاء السلب مفوض [ ص: 317 ] إلى رأي الإمام ، وقرره الطحاوي وغيره بأنه لو كان يجب للقاتل لكان السلب مستحقا بالقتل ولجعله بينهما لاشتراكهما في قتله ، فلما خص به أحدهما دل على أنه لا يستحق بالقتل ، وإنما يستحق بتعيين الإمام . وأجاب الجمهور بأن في السياق دلالة على أن السلب يستحقه من أثخن في الجرح ولو شاركه غيره في الضرب أو الطعن . قال المهلب : وإنما قال : " كلاكما قتله " . وإن كان أحدهما هو الذي أثخنه لتطيب نفس الآخر . وقال الإسماعيلي : أقول إن الأنصاريين ضرباه فأثخناه فبلغا به المبلغ الذي يعلم معه أنه لا يجوز بقاؤه على تلك الحال إلا قدر ما يطفأ .

وقد دل قوله : " كلاكما قتله " على أن كلا منهما وصل إلى قطع الحشوة وإبانتها ، ولما لم يعلم أن عمل كل من سيفيهما كعمل الآخر ، غير أن أحدهما سبق بالضرب فصار في حكم المثبت بجراحته حتى وقعت به ضربة الثاني فاشتركا في القتل . إلا أن أحدهما قتله وهو ممتنع ، والآخر قتله وهو مثبت ، فلذلك قضى بالسلب للسابق إلى إثخانه وقد أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق حدثني ثور بن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال : قال معاذ بن عمرو بن الجموح : سمعتهم يقولون : أبو جهل لا يخلص إليه ، فجعلته من شأني ، فعمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي ، قال : ثم عاش معاذ إلى وقت عثمان ، قال : ومر بأبي جهل معوذ ابن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق ، ثم قاتل معوذ حتى قتل ، فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل - لعنه الله - فوجده بآخر رمق فذكر ما تقدم

قال في الفتح : فهذا الذي رواه ابن إسحاق يجمع بين الأحاديث لكنه يخالف ما في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف ، فإنه رأى معاذا ومعوذا شدا عليه جميعا حتى طرحاه وابن إسحاق يقول : إن ابن عفراء هو معوذ بتشديد الواو ، والذي في الصحيح معاذ ، فيحتمل أن يكون معاذ ابن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو كما في الصحيح ، وضربه بعد ذلك معوذ حتى أثبته ، ثم حز رأسه ابن مسعود ، فتجتمع الأقوال كلها وإطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود أنه وجده وبه رمق ، وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسيفيهما منزلة المقتول حتى لم يبق له إلا مثل حركة المذبوح ، وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فضرب عنقه ، وأما ما وقع عند موسى بن عقبة ، وكذا عند أبي الأسود عن عروة أن ابن مسعود " وجد أبا جهل مصروعا بينه وبين المعركة غير كثير متقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذه لا يتحرك منه عضو ، فظن عبد الله أنه مثبت جراحا ، فأتاه من ورائه فتناول قائم سيف أبي جهل فاستله ورفع بعضد أبي جهل عن قفاه فضربه فوقع رأسه بين يديه ، فيحمل على أن ذلك وقع له بعد أن خاطبه بما تقدم .

[ ص: 318 ] قوله : ( والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء ) وقع في البخاري في الخمس أنهما ابنا عفراء ، فقيل : إن عفراء أم معاذ واسم أبيه الحارث وأما معاذ بن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء ، وإنما أطلق عليه تغليبا ، ويحتمل أن تكون أم معاذ أيضا تسمى عفراء ، وأنه لما كان لمعوذ أخ يسمى معاذا باسم الذي شركه في قتل أبي جهل ظنه الراوي أخاه . قوله : ( نفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر سيف أبي جهل ) يمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم نفل ابن مسعود سيفه الذي قتله به فقط ، وعلى ذلك يحمل قوله في رواية أحمد " فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه " جمعا بين الأحاديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية