صفحة جزء
باب إيجاب الغسل من التقاء الختانين ونسخ الرخصة فيه .

288 - ( عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل . } متفق عليه . ولمسلم وأحمد " وإن لم ينزل " ) .


قوله : ( إذا جلس ) الضمير المستتر فيه ، وفي قوله : ثم جهدها للرجل ، والضمير البارز في قوله : شعبها وجهدها للمرأة .

قوله : ( شعبها ) الشعب جمع شعبة وهي القطعة من الشيء ، قيل : المراد هنا يداها ورجلاها ، وقيل : رجلاها وفخذاها . وقيل : ساقاها وفخذاها ، وقيل : فخذاها وأسكتاها . وقيل : فخذاها وشفراها ، وقيل : نواحي فرجها الأربع ، قاله في الفتح : قال الأزهري : والأسكتان : ناحيتا الفرج ، والشفران : طرفا الناحيتين .

قوله : ( ثم جهدها ) بفتح الجيم والهاء يقال : جهد وأجهد أي بلغ المشقة ، قيل : معناه كدها بحركته ، أو بلغ جهده في العمل بها ، والمراد به هنا معالجة الإيلاج ، كنى به عنها . والحديث يدل على أن إيجاب الغسل لا يتوقف على الإنزال ، بل يجب بمجرد الإيلاج أو ملاقاة الختان الختان كما سيأتي ، وقد ذهب إلى ذلك الخلفاء الأربعة والعترة والفقهاء وجمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وروى ابن عبد البر عن بعضهم أنه قال : انعقد إجماع الصحابة على إيجاب الغسل من التقاء الختانين ، قال : وليس ذلك عندنا كذلك ، ولكنا نقول : إن الاختلاف في هذا ضعيف ، وإن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم من السلف والخلف ، انعقد إجماعهم على إيجاب الغسل من التقاء الختانين أو مجاوزة الختان الختان انتهى .

وجعلوا أحاديث الباب ناسخة لحديث " الماء من الماء " وخالف في ذلك أبو سعيد الخدري وزيد بن خالد وابن أبي وقاص ومعاذ ورافع بن خديج .

وروي أيضا عن علي ، ومن غير الصحابة عمر بن عبد العزيز والظاهرية ، وقالوا : لا يجب الغسل إلا إذا وقع الإنزال ، وتمسكوا بحديث { الماء من الماء } المتفق عليه ، ويمكن تأييد ذلك بحمل الجهد المذكور في الحديث على الإنزال ، ولكنه لا يتم بعد التصريح بقوله : " وإن لم ينزل " في رواية مسلم وأحمد ، وأصرح من ذلك حديث عائشة الآتي بعد هذا ، [ ص: 277 ] لتصريحه بأن مجرد مس الختان للختان موجب للغسل ، ولكنها لا تتم دعوى النسخ التي جزم بها الأولون إلا بعد تسليم تأخر حديث أبي هريرة وعائشة وغيرهما ، وقد ذكر المصنف حديث أبي بن كعب ، وحديث رافع بن خديج للاستدلال بهما على النسخ ، وهما صريحان في ذلك ، وسنذكرهما .

وقد ذكر الحازمي في الناسخ والمنسوخ آثارا تدل على النسخ ، ولو فرض عدم التأخر لم ينتهض حديث " الماء من الماء " لمعارضة حديث عائشة وأبي هريرة ; لأنه مفهوم ، وهما منطوقان ، والمنطوق أرجح من المفهوم . قال النووي : وقد أجمع على وجوب الغسل متى غابت الحشفة في الفرج ، وإنما كان الخلاف فيه لبعض الصحابة ومن بعدهم ، ثم انعقد الإجماع على ما ذكرنا ، وهكذا قال ابن العربي وصرح أنه لم يخالف في ذلك إلا داود .

قوله : ( فقد وجب عليه الغسل ) هو بضم الغين المعجمة اسم للاغتسال ، وحقيقته إفاضة الماء على الأعضاء ، وزادت الهادوية مع الدلك ، ولم نجد في كتب اللغة ما يشعر بأن الدلك داخل في مسمى الغسل ، فالواجب ما صدق عليه اسم الغسل المأمور به لغة ، اللهم إلا أن يقال : حديث { بلوا الشعر وأنقوا البشر } - على فرض صحته - مشعر بوجوب الدلك ; لأن الإنقاء لا يحصل بمجرد الإفاضة . لا يقال : إذا لم يجب الدلك لم يبق فرق بين الغسل والمسح ; لأنا نقول : المسح الإمرار على الشيء باليد يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ فلا يجب فيه الاستيعاب بخلاف الغسل ، فإنه يجب فيه الاستيعاب .

289 - ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا قعد بين شعبها الأربع ، ثم مس الختان الختان فقد وجب الغسل } رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه ولفظه : { إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل } ) . ولها حديث آخر بلفظ : { إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا } وأخرجه الشافعي في الأم والنسائي ، وصححه ابن حبان وابن القطان ، وأعله البخاري بأن الأوزاعي أخطأ فيه . ورواه غيره عن عبد الرحمن بن القاسم مرسلا ، واستدل على ذلك بأن أبا الزناد قال : سألت القاسم بن محمد سمعت في هذا الباب شيئا ؟ قال : لا . وابنه عبد الرحمن قال عن أبيه . وأجاب من صححه بأنه يحتمل أن يكون القاسم كان نسيه ، ثم ذكر أو حدث به ابنه عبد الرحمن ثم نسي . قال الحافظ : ولا يخلو الجواب عن نظر . قال النووي : هذا الحديث أصله صحيح ، ولكن فيه تغيير ، وتبع في ذلك ابن الصلاح .

قوله : ( بين شعبها ) قد تقدم تفسير الشعب .

قوله : ( الختان ) [ ص: 278 ] المراد به هنا موضع الختن ، والختن في المرأة قطع جلدة في أعلى الفرج مجاورة لمخرج البول ، كعرف الديك ويسمى : الخفاض .

قوله : ( جاوز ) ورد بلفظ المجاوزة ، وبلفظ الملاقاة ، وبلفظ الملامسة ، وبلفظ الإلزاق ، والمراد بالملاقاة : المحاذاة ، قال القاضي أبو بكر : إذا غابت الحشفة في الفرج فقد وقعت الملاقاة .

قال ابن سيد الناس : وهكذا معنى مس الختان الختان أي قاربه وداناه ، ومعنى إلزاق الختان بالختان إلصاقه به ، ومعنى المجاوزة ظاهر . قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي حاكيا عن ابن العربي : وليس المراد حقيقة اللمس ولا حقيقة الملاقاة ، وإنما هو من باب المجاز والكناية عن الشيء بما بينه وبينه ملامسة أو مقاربة ، وهو ظاهر وذلك أن ختان المرأة في أعلى الفرج ، ولا يمسه الذكر في الجماع . وقد أجمع العلماء كما أشار إليه على أنه لو وضع ذكره على ختانها . ولم يولجه لم يجب الغسل على واحد منهما فلا بد من قدر زائد على الملاقاة ، وهو ما وقع مصرحا به في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ : { إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل } أخرجه ابن أبي شيبة ، والتصريح بلفظ الوجوب في هذا الحديث والذي قبله مشعر بأن ذلك على وجه الحتم ، ولا خلاف فيه بين القائلين بأن مجرد ملاقاة الختان الختان سبب للغسل .

قال المصنف رحمه الله: وهو يفيد الوجوب وإن كان هناك حائل انتهى . وذلك ; لأن الملاقاة والمجاوزة لا يتوقف صدقهما على عدمه .

290 - ( وعن أبي بن كعب قال : { إن الفتيا التي كانوا يقولون : الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها } رواه أحمد وأبو داود ، وفي لفظ إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها . رواه الترمذي وصححه ) . الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة ، ورواه الزهري عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب .

وفي رواية ابن ماجه عن الزهري قال : قال سهل بن سعد . وفي رواية أبي داود عن ابن شهاب حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره أن أبي بن كعب أخبره ، وجزم موسى بن هارون والدارقطني بأن الزهري لم يسمعه من سهل . وقال ابن خزيمة : هذا الرجل الذي لم يسمه الزهري هو أبو حازم ، ثم ساقه من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد عن أبي قال : ( إن الفتيا ) . وساقه بلفظ : الكتاب إلا أنه قال : ( في بدء الإسلام ) . وقد ساقه ابن خزيمة أيضا عن الزهري ، قال : أخبرني سهل ، قال الحافظ : وهذا يدفع قول من جزم بأنه لم يسمعه منه ، لكن قال ابن خزيمة : أهاب أن [ ص: 279 ] تكون هذه اللفظة غلطا من محمد بن جعفر الراوي له عن معمر عن الزهري . قال الحافظ : وأحاديث أهل البصرة عن معمر يقع الوهم فيها ، لكن في كتاب ابن شاهين من طريق يعلى بن منصور عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري حدثني سهل ، وكذا أخرجه بقي بن مخلد في مسنده عن أبي كريب عن ابن المبارك ، وقال ابن حبان : يحتمل أن يكون الزهري سمعه من رجل عن سهل ، ثم لقي سهلا فحدث ، أو سمعه من سهل ثم ثبته فيه أبو حازم ، ورواه ابن أبي شيبة من طريق شعبة عن سيف بن وهب عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عميرة بن يثربي عن أبي بن كعب نحوه .

والحديث يدل على ما قاله الجمهور من النسخ ، وقد سبق الكلام عليه .

291 - ( وعن عائشة رضي الله عنها { أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل وعائشة جالسة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل } . رواه مسلم ) . قوله : ( ثم يكسل ) قال النووي : ضبطناه بضم الياء ويجوز فتحها ، ويقال : أكسل الرجل في جماعه إذا ضعف عن الإنزال ، وكسل بفتح الكاف وكسر السين ، والأولى أفصح ، وهذا تصريح بما ذهب إليه الجمهور ، وقد سلف ذكر الخلاف فيه .

292 - ( وعن { رافع بن خديج قال : ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على بطن امرأتي ، فقمت ولم أنزل فاغتسلت وخرجت فأخبرته ، فقال : لا عليك . الماء من الماء ، قال رافع : ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالغسل } رواه أحمد ) . الحديث حسنه الحازمي وفي تحسينه نظر ; لأن في إسناده رشدين وليس من رجال الحسن .

وفيه أيضا مجهول ; لأنه قال : عن بعض ولد رافع بن خديج فلينظر ، فالظاهر ضعف الحديث لا حسنه ،

وهو من أدلة مذهب الجمهور . وفي الباب عن علي بن أبي طالب وعثمان والزبير وطلحة وأبي أيوب وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية