صفحة جزء
باب ما جاء في فتح مكة هل هو عنوة أو صلح ؟ 3444 - ( عن أبي هريرة أنه ذكر فتح مكة فقال : { أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة فبعث الزبير على إحدى المجنبتين وبعث خالدا على المجنبة الأخرى ، وبعث أبا عبيدة على الحسر فأخذوا بطن الوادي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته ، قال : وقد وبشت قريش أوباشها ، وقالوا : نقدم هؤلاء ، فإن كان لهم شيء كنا معهم ، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا ، قال أبو هريرة : ففطن فقال لي : يا أبا هريرة قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : اهتف لي بالأنصار ولا يأتيني إلا أنصاري ، فهتف بهم فجاءوا فطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ، ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى : احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا . قال أبو هريرة : فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم ما شاء إلا قتله ، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا ، فجاء أبو سفيان فقال : يا رسول الله أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فأغلق الناس أبوابهم ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر فاستلمه ، ثم طاف بالبيت وفي يده قوس وهو آخذ بسية القوس فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه ، [ ص: 21 ] فجعل يطعن به في عينه ويقول : { جاء الحق ، وزهق الباطل } ثم أتى الصفا فعلا حيث ينظر إلى البيت ، فرفع يده فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه والأنصار تحته ، قال : يقول بعضهم لبعض : أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته ، قال أبو هريرة : وجاء الوحي وكان إذا جاء لم يخف علينا فليس أحد من الناس يرفع طرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضى ، فلما قضي الوحي رفع رأسه ثم قال : يا معشر الأنصار أقلتم : أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته قالوا : قلنا ذلك يا رسول الله ، قال : فما اسمي إذن كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم فالمحيا محياكم ، والممات مماتكم ، فأقبلوا إليه يبكون ويقولون : والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن برسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم } رواه أحمد ومسلم ) .

3445 - ( وعن أم هانئ قالت : { ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب فسلمت عليه ، فقال : من هذه ؟ فقلت : أنا أم هانئ بنت أبي طالب ، فقال : مرحبا يا أم هانئ فلما فرغ من غسله قام يصلي ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلا قد أجرته فلان بن هبيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ، قالت : وذلك ضحى } . متفق عليه .

وفي لفظ لأحمد قالت : { لما كان يوم فتح مكة أجرت رجلين من أحمائي ، فأدخلتهما بيتا وأغلقت عليهما بابا ، فجاء ابن أمي علي ، فتفلت عليهما بالسيف . وذكرت حديث أمانهما } ) .


قوله : ( على إحدى المجنبتين ) بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون المشددة . قال في القاموس والمجنبة بفتح النون : المقدمة والمجنبتان بالكسر : الميمنة والميسرة انتهى . فالمراد هنا أنه صلى الله عليه وسلم بعث الزبير إما على الميسرة أو الميمنة وخالدا على الأخرى

قوله : ( على الحسر ) بضم الحاء المهملة وتشديد السين المهملة أيضا ثم راء جمع حاسر : وهو من لا سلاح معه قوله : ( في كتيبته ) هي الجيش قوله : ( وبشت قريش أوباشها ) الأوباش بموحدة ومعجمة : الأخلاط والسفلة كما في القاموس ، والمراد أن قريشا جمعت السفلة منها قوله

: ( اهتف لي بالأنصار ) أي اصرخ بهم . قال في القاموس : هتفت الحمامة تهتف : صاتت [ ص: 22 ] وبه هتافا بالضم : صاح قوله : ( ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى ) فيه استعارة القول للفعل ، والمراد أنه أشار بيديه إشارة تدل على الأمر منه صلى الله عليه وسلم بقتل من يعرض لهم من أوباش قريش . وقوله : " احصدوهم حصدا " تفسير منه صلى الله عليه وسلم لما دلت عليه الإشارة بالقول هكذا وقع عند المصنف فيما رأيناه من النسخ بدون لفظ أي المشعرة بأن ما بعدها تفسير للإشارة من الراوي ، ولفظ مسلم : " أي احصدوهم حصدا " .

قوله : ( أبيدت خضراء قريش ) في رواية " أبيحت " وخضراء قريش بالخاء والضاد المعجمتين بعدهما راء ، قال في القاموس : والخضراء : سواد القوم ومعظمهم قوله : ( لا قريش بعد اليوم ) يجوز في قريش الفتح لكنه يحتاج إلى تأويل : أي لا أحد من قريش لأنه لا يفتح بعد لا إلا النكرة ، والرفع أيضا على أنها بمعنى ليس وهو شاذ ، حتى قيل إنه لم يرد إلا في الشعر قوله : ( بسية القوس ) سية القوس : ما انعطف من الطرفين لأنهما مستويان وهي بكسر السين المهملة وفتح الياء التحتية مخففة قوله : ( صنم إلى جنب البيت ) في رواية للبخاري أن الأصنام كانت ثلاث مائة وستين

قوله : ( يطعن ) بضم العين وبفتحها ، والأول أشهر .

قوله : ( ويقول جاء الحق ) زاد في حديث ابن عمر عند الفاكهي وصححه ابن حبان " فيسقط الصنم ولا يمسه " وللفاكهي والطبراني من حديث ابن عباس " فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه مع أنها كانت ثابتة في الأرض ، وقد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص ، وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم إذلالا لها ولعابديها ، وإظهارا لعدم نفعها ; لأنها إذا عجزت عن أن تدفع عن نفسها فهي عن الدفع عن غيرها أعجز . قوله : ( الضن ) بكسر الضاد المعجمة مشددة بعدها نون : أي الشح والبخل أن يشاركهم أحد في رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : ( يصدقانكم ويعذرانكم ) فيه جواز الجمع بين ضمير الله ورسوله ، وكذلك وقع الجمع بينهما في حديث النهي عن لحوم الحمر الأهلية بلفظ : { إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية } فلا بد من حمل النهي الواقع في حديث الخطيب الذي خطب بحضرته صلى الله عليه وسلم فقال : " من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى " الحديث ، وقد تقدم على من اعتقد التسوية كما قدمنا ذلك في موضعه .

قوله : ( وعن أم هانئ ) قد تقدم الكلام على أطراف من هذا الحديث في صلاة الضحى قوله : ( زعم ابن أمي ) في رواية للبخاري في أول كتاب الصلاة : زعم ابن أبي ، والكل صحيح فإنه شقيقها ، وزعم هنا بمعنى ادعى قوله : ( أنه قاتل رجلا ) فيه إطلاق اسم الفاعل على من عزم على التلبس بالفعل قوله : ( فلان بن هبيرة ) بالنصب على البدل أو الرفع على الحذف .

وفي رواية أحمد المذكورة رجلين من أحمائي ، وقد أخرجها الطبراني . قال أبو العباس بن سريج : هما جعدة بن هبيرة ورجل آخر من بني مخزوم وكانا فيمن قاتل [ ص: 23 ] خالد بن الوليد ولم يقبلا الأمان فأجارتهما أم هانئ وكانا من أحمائها . وقال ابن الجوزي : إن كان ابن هبيرة منهما فهو جعدة انتهى . قال الحافظ : وجعدة معدود فيمن له رواية ، ولم يصح له صحبة ، وقد ذكره من حيث الرواية في التابعين البخاري وابن حبان وغيرهما ، فكيف يتهيأ لمن هذه سبيله في صغر السن أن يكون عام الفتح مقاتلا حتى يحتاج إلى الأمان انتهى

وهبيرة المذكور هو زوج أم هانئ ، فلو كان الذي أمنته أم هانئ هو ابنها منه لم يهم علي بقتله لأنها كانت قد أسلمت وهرب زوجها وترك ولدها عندها ، وجوز ابن عبد البر أن يكون ابنا لهبيرة من غيرها مع نقله عن أهل النسب أنهم لم يذكروا لهبيرة ولدا من غير أم هانئ . وجزم ابن هشام في تهذيب السيرة بأن اللذين أجارتهما أم هانئ هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان .

وروى الأزرقي بسند فيه الواقدي في حديث أم هانئ هذا أنهما الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة . وحكى بعضهم أنهما الحارث بن هشام وهبيرة بن أبي وهب ، وليس بشيء لأن هبيرة هرب بعد فتح مكة إلى نجران فلم يزل بها مشركا حتى مات ، كذا جزم به ابن إسحاق وغيره ، فلا يصح ذكره فيمن أجارته أم هانئ . وقال الكرماني : قال الزبير بن بكار : فلان بن هبيرة هو الحارث بن هشام ، وقد تصرف في كلام الزبير ، والواقع عند الزبير في هذه القصة موضع فلان بن هبيرة الحارث بن هشام . قال الحافظ : والذي يظهر لي أن في رواية الحديث حرفا كان فيه فلان بن عم ابن هبيرة فسقط لفظ عم ، أو كان فيه فلان قريب ابن هبيرة فتغير لفظ قريب إلى لفظ ابن ، وكل من الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية وعبد الله بن أبي ربيعة يصح وصفه بأنه ابن عم هبيرة وقريبه لكون الجميع من بني مخزوم . وقد تمسك بحديث أبي هريرة وحديث أم هانئ من قال إن مكة فتحت عنوة ، ومحل الحجة من الأول أمره صلى الله عليه وسلم للأنصار بالقتل لأوباش قريش ووقوع القتل منهم . ومحل الحجة من الثاني ما وقع من علي من إرادة قتل من أجارته أم هانئ ، ولو كانت مكة مفتوحة صلحا لم يقع منه ذلك ، وسيأتي ذكر الخلاف وما هو الحق في ذلك

3446 - ( وعن هشام بن عروة عن أبيه قال : { لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، فبلغ ذلك قريشا ، خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوا مر الظهران ، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوهم وأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان ، فلما سار قال للعباس : احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين ، فحبسه [ ص: 24 ] العباس ، فجعلت القبائل تمر كتيبة بعد كتيبة على أبي سفيان حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها ، قال : يا عباس من هذه ؟ قال : هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة ومعه الراية ، فقال سعد بن عبادة : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة . اليوم تستحل الكعبة ، فقال أبو سفيان : يا عباس حبذا يوم الذمار ، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام ، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان قال : ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة ؟ قال : ما قال ؟ قال : قال كذا وكذا وكذا ، فقال : كذب سعد ، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ، ويوم تكسى فيه الكعبة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون ، قال عروة : فأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال : سمعت العباس يقول للزبير بن العوام : يا أبا عبد الله هاهنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية ؟ قال : نعم ، قال : وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى } رواه البخاري ) . قوله : ( عن هشام بن عروة عن أبيه قال لما سار . . . إلخ ) هكذا أورده البخاري مرسلا قال في الفتح : ولم أره في شيء من الطرق موصولا عن عروة ، ولكن آخر الحديث موصول لقول عروة فيه : فأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال : سمعت العباس . . . إلخ .

قوله : ( فبلغ ذلك قريشا ) يحتمل أن يكون ذلك بطريق الظن لا أن مبلغا بلغهم حقيقة ذلك قوله : ( حتى أتوا مر الظهران ) بفتح الميم وتشديد الراء : مكان معروف ، والعامة تقوله بسكون الراء وزيادة واو ، والظهران بفتح المعجمة وسكون الهاء بلفظ تثنية ظهر قوله : ( فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوهم . . . إلخ ) في رواية ابن إسحاق " فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران

قال العباس : والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش . قال : فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئت الأراك ، فقلت : لعلي أجد بعض الحطابة أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم ، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء ، قال : فعرفت صوته فقلت : يا أبا حنظلة ، قال : فعرف صوتي ، فقال : أبو الفضل ؟ قلت : نعم ، قال : ما الحيلة ؟ قلت : فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك ، قال : فركب خلفه ورجع صاحباه " وهذا مخالف لما في حديث الباب أنهم أخذوهم .

وفي رواية ابن عائذ " فدخل بديل وحكيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما " قال في الفتح : فيحتمل قوله : " ورجع صاحباه " أي بعد أن أسلما ، واستمر أبو سفيان عند العباس لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له [ ص: 25 ] أن يحبسه حتى يرى العساكر . ويحتمل أن يكونا رجعا لما التقى العباس بأبي سفيان فأخذهما العسكر أيضا .

وفي مغازي موسى بن عقبة " فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بديل وحكيم وتأخر أبو سفيان بإسلامه إلى الصبح " ويجمع بين الروايات بأن الحرس أخذوهم ، فلما رأوا أبا سفيان مع العباس تركوه معه

قوله : ( احبس أبا سفيان ) في رواية موسى بن عقبة " أن العباس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا آمن أن يرجع أبو سفيان فيكفر ، فأحبسه حتى يرى جنود الله ، ففعل ، فقال أبو سفيان : أغدرا يا بني هاشم ؟ قال له العباس : لا ، ولكن لي إليك حاجة فتصبح فتنظر جنود الله وما أعد الله للمشركين ، فحبسه بالمضيق دون الأراك حتى أصبحوا قوله : ( عند خطم الجبل ) في رواية النسفي والقابسي بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة وبالجيم والموحدة : أي أنف الجبل ، وهي رواية ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي .

وفي رواية الأكثر بفتح المهملة من اللفظة الأولى وبالخاء المعجمة وسكون التحتانية من الثانية : أي ازدحامها ، وإنما حبسه هناك لكونه كان مضيقا ليرى الجميع ولا تفوته رؤية أحد منهم قوله : ( كتيبة ) بوزن عظيمة : وهي القطعة من الجيش من الكتب وهو الجمع .

قوله : ( ومعه الراية ) أي راية الأنصار ، وكانت راية المهاجرين مع الزبير كما هو مذكور في آخر الحديث قوله : ( يوم الملحمة ) بالحاء المهملة : أي يوم حرب لا يوجد منه مخلص أو يوم القتل يقال لحم فلان فلانا إذا قتله قوله : ( يوم الذمار ) بكسر المعجمة وتخفيف الميم : أي الهلاك . قال الخطابي : تمنى أبو سفيان أن يكون له يد فيحمي قومه ويدفع عنهم . وقيل : المراد هذا يوم الغضب للحريم والأهل ، وقيل : المراد هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني فيه مكروه قوله : ( وهي أقل الكتائب ) أي أقلها عددا ; لأن عدد المهاجرين كان أقل من عدد غيرهم من القبائل . وقال القاضي عياض : وقع للجميع بالقاف ووقع في الجمع للحميدي أجل بالجيم قوله : ( كذب سعد ) فيه إطلاق الكذب على الإخبار بغير ما سيقع ولو قاله القائل بناء على ظنه وقوة القرينة ، والخلاف في ماهية الكذب معروف .

قوله : ( يعظم الله فيه الكعبة ) هذا إشارة إلى ما وقع من إظهار الإسلام وأذان بلال على ظهر الكعبة وإزالة الأصنام عنها ومحو ما فيها من الصور وغير ذلك قوله : ( ويوم تكسى فيه الكعبة ) قيل إن قريشا كانت تكسو الكعبة في رمضان ، فصادف ذلك اليوم ، أو المراد باليوم الزمان ، أو أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام قوله : ( بالحجون ) بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة : وهو مكان معروف بالقرب من مقبرة مكة قوله : ( فأخبرني نافع بن جبير ) لم يدرك نافع يوم الفتح ، ولعله سمع العباس يقول للزبير ذلك في حجة اجتمعوا فيها بعد أيام النبوة ، فإن نافعا لا صحبة له قوله : ( قال : وأمر [ ص: 26 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . إلخ ) القائل هو عروة وهو من بقية الخبر المرسل ، وليس فيه من المرفوع إلا ما صرح بسماعه من نافع ، وأما باقيه فيحتمل أن يكون عروة تلقاه عن أبيه أو عن العباس فإنه أدركه وهو صغير أو جمعه من نقل جماعة له بأسانيد مختلفة . قال الحافظ : وهو الراجح .

قوله : ( من كداء ) بالمد مع فتح الكاف والآخر بضم الكاف والقصر والأول يسمى المعلا والثاني الثنية السفلى وهذا يخالف ما وقع في سائر الأحاديث في البخاري وغيره أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها ، وأمر الزبير أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه ، وبعث خالدا في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت ، وتمام الحديث المذكور في الباب " فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان " كما في صحيح البخاري ، وكان على المصنف أن يذكر ذلك لأنه يدل على ما ترجم الباب به ، وفي مغازي موسى بن عقبة " أنه قتل من المشركين يومئذ نحو عشرين رجلا قتلهم أصحاب خالد " وذكر ابن سعد أن عدة من أصيب من الكفار أربعة وعشرون رجلا . وروى الطبراني من حديث ابن عباس قال : { خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله حرم مكة } الحديث ، فقيل له : هذا خالد بن الوليد يقتل ، فقال : قم يا فلان فقل له فليرفع القتل ، فأتاه الرجل فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك : اقتل من قدرت عليه ، فقتل سبعين ثم اعتذر الرجل إليه فسكت . قال : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الأمراء أن لا يقتلوا إلا من قاتلهم ، غير أنه كان أهدر دم نفر سماهم " انتهى .

3447 - ( وعن سعد قال : { لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين ، وسماهم } . رواه النسائي وأبو داود ) .

3448 - ( وعن أبي بن كعب قال : { لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربين عليهم ، فلما كان يوم الفتح قال رجل لا يعرف : لا قريش بعد اليوم ، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمن الأسود والأبيض إلا فلانا ، وفلانا ناس سماهم ، فأنزل الله عز وجل { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نصبر ولا نعاقب } رواه عبد الله بن أحمد [ ص: 27 ] في المسند ، وقد سبق حديث أبي هريرة وأبي شريح إلا أن فيهما " وإنما أحلت لي ساعة من نهار " وأكثر هذه الأحاديث تدل على أن الفتح عنوة ) .

3449 - ( وعن عائشة قالت : { قلنا يا رسول الله ألا تبني بيتا بمنى يظلك ؟ قال : لا ، منى مناخ لمن سبق } رواه الخمسة إلا النسائي ، وقال الترمذي : حديث حسن ) .

3450 - ( وعن علقمة بن نضلة قال : { توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن } . رواه ابن ماجه ) . حديث سعد أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه ، وتمامه { اقتلوهم وإن وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة } عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل من بني غنم ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح . فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو معلق بأستار الكعبة ، فاستبق سعيد بن الحارث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله . الحديث بطوله من طريق عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد المخزومي عن جده عن أبيه ، وفيه " فأما ابن خطل فقتله الزبير بن العوام " وجزم أبو نعيم في المعرفة بأن الذي قتله هو أبو برزة . وذكر ابن هشام أن عبد الله بن خطل قتله سعيد بن حريث وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه . وذكر ابن حبيب أنه أمر بقتل هند بنت عتبة وقريبة بالقاف والموحدة وسارة فقتلتا وأسلمت هند . وذكر ابن إسحاق أن سارة أمنها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استؤمن لها ، ومنهم الحويرث بن نفيل بنون وقاف مصغرا ، وهبار بن الأسود ، وفرتنا بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون . وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي ، وذكر الحاكم ممن أهدر دمه كعب بن زهير ووحشي بن حرب وأرنب مولاة ابن خطل . وقد ذكر الحافظ في الفتح جملة من لم يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم بأسمائهم فكانوا ثمانية رجال وست نسوة ، منهم من أسلم ، ومنهم من قتل ، ومنهم من هرب . وحديث أبي أخرجه أيضا الترمذي وقال : حسن غريب من حديث أبي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة في الفوائد وابن حبان والطبراني وابن مردويه [ ص: 28 ] والحاكم والبيهقي في الدلائل .

وحديث أبي هريرة وأبي شريح تقدما في باب : هل يستوفى القصاص والحدود في الحرم أم لا ، من كتاب الدماء .

وحديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري . وأخرجه الترمذي وابن ماجه عن أم مسيكة وذكر غيرهما أنها مكية .

وحديث علقمة بن نضلة رجال إسناده ثقات ، فإن ابن ماجه قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة فذكره ، وعمر بن سعيد وعثمان بن أبي سليمان ثقتان ، وأما أبو بكر وعيسى فمن رجال الصحيح .

قوله : ( لنربين ) أي لنزيدن عليهم .

وفي حديث سعد وحديث أبي بن كعب دليل على أن مكة فتحت صلحا . وقد اختلف أهل العلم في ذلك ، فذهب الأكثر إلى أنها فتحت عنوة ، وعن الشافعي ورواية عن أحمد أنها فتحت صلحا لما ذكر في حديث الباب من التأمين ولأنها لم تقسم ولأن الغانمين لم يملكوا دورها ، وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها . وحجة الأولين ما وقع من التصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد ، وتصريحه صلى الله عليه وسلم بأنها أحلت له ساعة من نهار ، ونهيه من التأسي به في ذلك كما وقع جميع ذلك في الأحاديث المذكورة في الباب تصريحا وإشارة .

وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة ، فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم وغنائمهم ، ولأن قسمة الأرض المغنومة ليست متفقا عليها ، بل الخلاف ثابت عن الصحابة فمن بعدهم ، وقد فتحت أكثر البلاد عنوة فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود أكثر الصحابة . وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يمكن أن يدعى اختصاصها به دون بقية البلاد ، وهي أنها دار النسك ومتعبد الخلق ، وقد جعلها الله تعالى حرما سواء العاكف فيه والباد . وأما قول النووي : احتج الشافعي بالأحاديث المشهورة بأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر ; لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وآله وسلم { من دخل دار أبي سفيان فهو آمن } كما تقدم ، وكذا من دخل المسجد كما عند ابن إسحاق فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال ، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب كما تقدم في حديث أبي هريرة أن قريشا وبشت أوباشا ، فإن كان مراده بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل كما قال الحافظ .

قال : ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول ، أعني قوله : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " وتمسك أيضا من قال : إنه أمنهم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصة الفتح ، فقال العباس : لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة يخبرهم بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة ، ثم قال في القصة [ ص: 29 ] بعد قصة أبي سفيان { من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد } وعند موسى بن عقبة في المغازي وهي أصح ما صنف في ذلك كما قال الحافظ .

وروي ذلك عن الجماعة ما نصه : إن أبا سفيان وحكيم بن حزام قالا : { يا رسول الله كنت حقيقا أن تجعل عدتك وكيدك لهوازن فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة ، فقال : إني لأرجو أن يجمعهما الله لي ، فتح مكة وإعزاز الإسلام بها ، وهزيمة هوازن وغنيمة أموالهم ، فقال أبو سفيان وحكيم بن حزام : فادع الناس بالأمان ، أرأيت إن اعتزلت قريش وكفت أيديها آمنون هم ؟ قال : من كف يده وأغلق داره فهو آمن ، قالوا : فابعثنا نؤذن بذلك فيهم ، قال : فانطلقوا ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل دار حكيم فهو آمن } ودار أبي سفيان بأعلى مكة ، ودار حكيم بأسفلها ، فلما توجها قال العباس : { يا رسول الله إني لا آمن أبا سفيان أن يرتد فرده حتى تريه جنود الله قال : أفعل } ، فذكر القصة ، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين ، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة .

ثم قال الشافعي : كانت مكة مؤمنة ولم يكن فتحها عنوة ، والأمان كالصلح . وأما الذين تعرضوا للقتال والذين استثنوا من الأمان وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة . يمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره صلى الله عليه وسلم بالقتال ، وبين حديث عروة المتقدم المصرح بتأمينه صلى الله عليه وسلم لهم ، وكذلك حديث سعد وحديث أبي بن كعب المذكوران بأن يكون التأمين علق على شرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال ، فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه حتى قاتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة ; لأن العبرة بالأصول لا بالأتباع ، وبالأكثر لا بالأقل ، كذا قال الحافظ في الفتح .

ويجاب عنه بما تقدم في أول الباب من حديث أبي هريرة " أن قريشا وبشت أوباشا لها وقالوا : نقدم هؤلاء . . . إلخ " فإنه يدل على أن غير الأوباش لم يرضوا بالتأمين ، بل وقع التصريح في ذلك الحديث بأنهم قالوا : " فإن كان للأوباش شيء كنا معهم ، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا " . ومما احتج به الشافعي ما وقع في سنن أبي داود بإسناد حسن عن جابر " أنه سئل : هل غنمتم يوم الفتح شيئا ؟ قال : لا " . ويجاب بأن عدم الغنيمة لا يستلزم عدم العنوة لجواز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم من عليهم بالأموال كما من عليهم بالأنفس حيث قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " . ومن أوضح الأدلة على أنها فتحت عنوة قوله صلى الله عليه وسلم : { وإنما أحلت لي ساعة من نهار } فإن هذا تصريح بأنها أحلت له في ذلك يسفك بها الدماء ، وأن حرمتها ذهبت فيه وعادت بعده ، ولو كانت مفتوحة صلحا لما كان لذلك معنى يعتد [ ص: 30 ] به .

وقد وقع في مسند أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن تلك الساعة استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر . واحتجت طائفة منهم الماوردي إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد المذكورة ، وقرر ذلك الحاكم من الإكليل ، وفيه جمع بين الأدلة . قال الحافظ في الفتح : والحق أن صورة فتحها كان عنوة ، ومعاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان ، ومنع قوم منهم السهيلي ترتب عدم قسمتها وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحا . وذكر المصنف رحمه اللهلحديث عائشة وحديث علقمة بن نضلة في أحاديث الباب يشعر بأنه من القائلين بالترتب ، ولا وجه لذلك لأن الإمام مخير بين قسمة الأرض المغنومة بين الغانمين وبين إبقائها وقفا على المسلمين ، ويلزم من ذلك منع بيع دورها وإجارتها ، وأيضا قد قال بعضهم : لا تدخل الأرض في حكم الأموال لأن من مضى كانوا إن غلبوا على الكفار لم يغنموا إلا الأموال وتنزل النار فتأكلها وتصير الأرض لهم عموما كما قال تعالى : { ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } الآية ، وقال تعالى : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها } الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية