صفحة جزء
باب جواز مصالحة المشركين على المال وإن كان مجهولا [ ص: 58 ] ( عن ابن عمر قال : { أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم وغلبهم على الأرض والزرع والنخل ، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح ويخرجون منها ، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي واسمه سعية : ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ فقال : أذهبته النفقات والحروب ، فقال : العهد قريب والمال أكثر من ذلك . وقد كان حيي قتل قبل ذلك ، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سعية إلى الزبير فمسه بعذاب ، فقال : قد رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا ، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة ، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق ، وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب ، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم ، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا ، وأراد أن يجليهم منها ، فقالوا : يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع وشيء ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم في كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة خرصه وأرادوا أن يرشوه فقال عبد الله : تطعموني السحت ، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ، ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ، ولا يحملني بغضي إياكم ، وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم ، فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر كل عام وعشرين وسقا من شعير ، فلما كان زمن عمر غشوا ، فألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه ، فقال عمر بن الخطاب : من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها بينهم ، فقسمها عمر بينهم ، فقال رئيسهم : لا تخرجنا دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، فقال عمر لرئيسهم : أتراه سقط على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما ثم يوما وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية } . رواه البخاري .

وفيه [ ص: 59 ] من الفقه : أن تبين عدم الوفاء بالشرط المشروط يفسد الصلح حتى في حق النساء والذرية ، وأن قسمة الثمار خرصا من غير تقابض جائزة ، وأن عقد المزارعة والمساقاة من غير تقدير مدة جائز ، وأن معاقبة من يكتم مالا جائزة ، وأن ما فتح عنوة يجوز قسمته بين الغانمين وغير ذلك من الفوائد ) .

3471 - ( وعن رجل من جهينة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لعلكم تقاتلون قوما فيظهرون عليكم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ، فتصالحونهم على صلح فلا تصيبوا منهم فوق ذلك ، فإنه لا يصلح } رواه أبو داود ) .


حديث الرجل الذي من جهينة أخرجه أيضا ابن ماجه وسكت عنه أبو داود وفي إسناده رجل مجهول لأنه من رواية رجل من ثقيف عن رجل من جهينة . ورواه أبو داود أيضا من طريق خالد بن معدان عن جبير بن نفير قال : " انطلق بنا إلى ذي مخبر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره

قوله : ( على أن يجلوا منها ) قال في القاموس : جلا القوم عن الموضع ومنه جلوا وجلاء ، وأجلوا : تفرقوا ، أو جلا من الخوف ، وأجلى من الجدب ، ثم قال : والجالية : أهل الذمة لأن عمر أجلاهم من جزيرة العرب انتهى .

وقال الهروي : جلا القوم عن مواطنهم وأجلى بمعنى واحد ، والاسم الجلاء والإجلاء

قوله : ( الصفراء والبيضاء والحلقة ) بفتح الحاء المهملة وسكون اللام ، وهي كما فسره المصنف رحمه الله تعالى: السلاح ، وهذا فيه مصالحة المشركين بالمال المجهول

قوله : ( فغيبوا مسكا ) بفتح الميم وسكون المهملة . قال في القاموس : المسك : الجلد أو خاص بالسخلة الجمع مسوك ، وبهاء : القطعة منه قوله : ( لحيي ) بضم الحاء المهملة تصغير حي وأخطب بالخاء المعجمة ، وسعية بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة أيضا بعدها تحتية

قوله : ( فمسه بعذاب ) فيه دليل على جواز تعذيب من امتنع من تسليم شيء يلزمه تسليمه وأنكر وجوده إذ غلب في ظن الإمام كذبه ، وذلك من نوع السياسة الشرعية

قوله : ( فقتل النبي صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق ) بمهملة وقافين مصغرا : وهو رأس يهود خيبر ، قال الحافظ : ولم أقف على اسمه إنما قتلهما لعدم وفائهم بما شرطه عليهم ، لقوله في أول الحديث " فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد

قوله : ( ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) في لفظ للبخاري { نقركم على ذلك ما شئنا } وفي لفظ آخر له { نقركم ما أقركم الله } والمراد ما قدر الله أنا نترككم فيها ، فإذا شئنا فأخرجناكم تبين أن الله قد أخركم

قوله : ( ففدعوا يديه ) الفدع بفتح [ ص: 60 ] الفاء والدال المهملة بعدها عين مهملة : زوال المفصل ، فدعت يداه : إذا أزيلتا من مفاصلهما . وقال الخليل : الفدع : عوج في المفاصل وفي خلق الإنسان إذا زاغت القدم من أصلها من الكعب وطرف الساق فهو الفدع . قال الأصمعي : هو زيغ في الكف بينها وبين الساعد ، وفي الرجل بينها وبين الساق . ووقع في رواية ابن السكن " شدع " بالشين المعجمة بدل الفاء ، وجزم به الكرماني ، قال الحافظ : وهو وهم لأن الشدغ بالمعجمة كسر الشيء المجوف ، قاله الجوهري ، ولم يقع ذلك لابن عمر في هذه القصة ، والذي في جميع الروايات بالفاء . وقال الخطابي : كان اليهود سحروا عبد الله بن عمر فالتفت يداه ورجلاه . قال : ويحتمل أن يكونوا ضربوه ، والواقع في حديث الباب أنهم ألقوه من فوق بيت

قوله : ( فقال رئيسهم : لا تخرجنا ) لعل في الكلام محذوفا . ووقع في رواية للبخاري في الشروط بلفظ " وقد رأيت إجلاءهم فلما أجمع . . . إلخ " فيكون المحذوف من حديث الباب هو هذا : أي لما أجمع عمر على إجلائهم . قال رئيسهم : وظاهر هذا أن سبب الإجلاء هو ما فعلوه بعبد الله بن عمر . قال في الفتح : وهذا لا يقتضي حصر السبب في إجلاء عمر إياهم ، وقد وقع لي فيه سببان آخران : أحدهما رواه الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة قال : ما زال عمر حتى وجد الثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : لا يجتمع بجزيرة العرب دينان } ، فقال : من كان له من أهل الكتابين عهد فليأت به أنفذه له وإلا فإني مجليكم فأجلاهم " أخرجه ابن أبي شيبة وغيره . وثانيهما رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة من طريق عثمان بن محمد الأخنسي قال : لما كثر العيال : أي الخدم في أيدي المسلمين وقووا على العمل في الأرض أجلاهم عمر . ويحتمل أن يكون كل من هذه الأشياء جزء علة في إخراجهم . والإجلاء : الإخراج عن المال والوطن على وجه الإزعاج والكراهة ا هـ

قوله : ( كيف بك إذا رقصت بك راحلتك ) أي ذهبت بك راقصة نحو الشام ، وفي لفظ للبخاري " تعدو بك قلوصك " والقلوص بفتح القاف وبالصاد المهملة : الناقة الصابرة على السير ، وقيل : الشابة ، وقيل : أول ما تركب من إناث الإبل ، وقيل : الطويلة القوائم ، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى إخراجهم من خيبر ، فكان ذلك من إخباره بالمغيبات ، والمراد بقوله رقصت : أي أسرعت

قوله : ( نحو الشام ) قد ثبت أن عمر أجلاهم إلى تيماء وأريحاء ، وقد وهم المصنف رحمه اللهفي نسبة جميع ما ذكره من ألفاظ هذا الحديث إلى البخاري ، ولعله نقل لفظ الحميدي في الجمع بين الصحيحين والحميدي كأنه نقل السياق من مستخرج البرقاني كعادته ، فإن كثيرا من هذه الألفاظ ليس في صحيح البخاري ، وإنما هو في مستخرج البرقاني من طريق حماد بن سلمة . وكذلك أخرج هذا الحديث بلفظ البرقاني أبو يعلى في مسنده والبغوي في فوائده ، ولعل الحميدي ذهل [ ص: 61 ] عن عزو هذا الحديث إلى البرقاني وعزاه إلى البخاري فتبعه المصنف في ذلك ، وقد نبه الإسماعيلي على أن حمادا كان يطوله تارة ويرويه تارة مختصرا ، وقد قدمنا الكلام على بعض فوائد هذا الحديث في المزارعة

قوله : ( فلا تصيبوا منهم فوق ذلك فإنه لا يصلح ) فيه دليل على أنه لا يجوز للمسلمين بعد وقوع الصلح بينهم وبين الكفار على شيء أن يطلبوا منهم زيادة عليه فإن ذلك من ترك الوفاء بالعهد ونقض العهد وهما محرمان بنص القرآن والسنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية