صفحة جزء
باب ما جاء في الضب 3588 - ( عن ابن عباس عن خالد بن الوليد أنه أخبره أنه { دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ميمونة وهي خالته وخالة ابن عباس ، فوجد عندها ضبا محنوذا قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد ، فقدمت الضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهوى بيده إلى [ ص: 134 ] الضب ، فقالت امرأة من النسوة الحضور : أخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قدمتن له ، قلن هو الضب يا رسول الله ، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ، فقال خالد بن الوليد : أحرام الضب يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ، قال خالد : فاجتررته فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر فلم ينهني } . رواه الجماعة إلا الترمذي ) .

3589 - ( وعن ابن عمر : { أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الضب فقال : لا آكله ولا أحرمه } متفق عليه .

وفي رواية عنه : { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معه ناس فيهم سعد ، فأتوا بلحم ضب ، فنادت امرأة من نسائه : إنه لحم ضب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلوا فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي } رواه أحمد ومسلم ) .

3590 - ( وعن جابر : { أن عمر بن الخطاب قال في الضب : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحرمه } وإن عمر قال : إن الله لينفع به غير واحد ، وإنما طعام عامة الرعاء منه ، ولو كان عندي طعمته . رواه مسلم وابن ماجه ) .

3591 - ( وعن جابر قال { : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضب ، فأبى أن يأكل منه وقال : لا أدري لعله من القرون التي مسخت } ) .

3592 - ( وعن أبي سعيد : { أن أعرابيا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني في غائط مضبة وإنه عامة طعام أهلي ، قال : فلم يجبه ، فقلنا : عاوده ، فعاوده فلم يجبه ثلاثا ، ثم ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الثالثة ، فقال : يا أعرابي : إن الله لعن أو غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض ، ولا أدري لعل هذا منها فلم آكلها ، ولا أنهى عنها } رواهما أحمد ومسلم . وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الممسوخ لا نسل له ، والظاهر أنه لم يعلم ذلك إلا بوحي ، وأن تردده في الضب كان قبل الوحي بذاك ، والحديث يرويه ابن مسعود : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرت عنده القردة ، قال مسعر : وأراه قال والخنازير مما مسخ ، فقال : إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا ، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك .

وفي رواية : { أن رجلا قال : يا رسول الله القردة [ ص: 135 ] والخنازير هي مما مسخ الله ؟ فقال النبي : - صلى الله عليه وسلم - إن الله لم يهلك أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا } روى ذلك أحمد ومسلم ) .


قوله : ( فوجد عندها ضبا ) هو دويبة تشبه الجرذون ولكنه أكبر منه قليلا ، ويقال الأنثى ضبة . قال ابن خالويه : إنه يعيش سبعمائة سنة وإنه لا يشرب الماء ويبول في كل أربعين يوما قطرة ، ولا يسقط له سن ويقال : بل أسنانه قطعة واحدة .

قوله : ( محنوذا ) بحاء مهملة ونون مضمومة وآخره ذال معجمة : أي مشويا بالحجارة المحماة ، ووقع في رواية " بضب مشوي " . قوله : ( أختها حفيدة ) بمهملة مضمومة بعدها فاء مصغرة قوله : ( لم يكن بأرض قومي ) قال ابن العربي : اعترض بعض الناس على هذه اللفظة وقال : إن الضباب موجودة بأرض الحجاز ، فإن كان أراد تكذيب الخبر فقد كذب هو فإنه ليس بأرض الحجاز منها شيء ، وربما أنها حدثت بعد عصر النبوة ، وكذا أنكر ذلك ابن عبد البر ومن تبعه . قال الحافظ : ولا يحتاج إلى شيء من هذا ، بل المراد بقوله : - صلى الله عليه وسلم - " بأرض قومي قريش فقط فيختص النفيبمكة وما حولها ، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز . قوله : ( فأجدني أعافه ) أي أكره أكله ، يقال : عفت الشيء أعافه . قوله : ( فاجتررته ) بجيم وراءين مهملتين هذا هو المعروف في كتب الحديث ، وضبطه بعض شراح المهذب بزاي قبل الراء وقد غلطه النووي .

قوله : ( لا آكله ولا أحرمه ) فيه جواز أكل الضب . قال النووي : وأجمع المسلمون على أن الضب حلال ليس بمكروه إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته ، وإلا ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا هو حرام وما أظنه يصح عن أحد ، فإن صح عن أحد فمحجوج بالنصوص وإجماع من قبله ا هـ . قال الحافظ : قد نقله ابن المنذر عن علي رضي الله عنه فأين يكون الإجماع مع مخالفته . ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم .

وقال الطحاوي في معاني الآثار : كره قوم أكل الضب منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن ، وقد جاء عن { النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن أكل لحم الضب } أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن شبل .

قال الحافظ في الفتح : وإسناده حسن فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل .

وحديث ابن عياش عن الشاميين قوي ، وهؤلاء شاميون ثقات ، ولا يغتر بقول الخطابي : ليس إسناده بذاك . وقول ابن حزم : فيه ضعفاء ومجهولون . وقول البيهقي : تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة . وقول ابن الجوزي لا يصح ، ففي كل ذلك تساهل لا يخفى ، فإن رواية إسماعيل عن الشاميين قوية عند البخاري ، وقد صحح الترمذي بعضها .

وأخرج أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والطحاوي وسنده على شرط [ ص: 136 ] الشيخين من حديث عبد الرحمن ابن حسنة " نزلنا أرضا كثيرة الضباب " الحديث ، وفيه " أنهم طبخوا منها ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب ، فأخشى أن تكون هذه ، فأكفئوها " ومثله حديث أبي سعيد المذكور في الباب . قال في الفتح : والأحاديث وإن دلت على الحل تصريحا وتلويحا نصا وتقريرا فالجمع بينها وبين الحديث المذكور حمل النهي فيه على أول الحال عند تجويز أن يكون مما مسخ . وحينئذ أمر بإكفاء القدور ثم توقف فلم يأمر به ولم ينه عنه . وحمل الإذن فيه على ثاني الحال لما علم أن الممسوخ لا نسل له وبعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه ، وأكل على مائدته بإذنه فدل على الإباحة . وتكون الكراهة للتنزيه في حق من يتقذره ، وتحمل أحاديث الإباحة على من لا يتقذره . وقد استدل على الكراهة بما أخرجه الطحاوي عن عائشة أنه { أهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ضب فلم يأكله فقام عليهم سائل ، فأرادت عائشة أن تعطيه ، فقال لها : أتعطينه ما لا تأكلين ؟ } قال محمد بن الحسن : دل ذلك على كراهته لنفسه ولغيره .

وتعقبه الطحاوي باحتمال أن يكون ذلك من جنس ما قال الله تعالى : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } ثم ساق الأحاديث الدالة على كراهة التصدق بحشف التمر ، وكحديث البراء { كانوا يحبون الصدقة بأردإ تمرهم ، فنزلت { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } } قال : فلهذا المعنى كره لعائشة أن تصدق بالضب لا لكونه حراما . وهذا يدل على أن الطحاوي فهم عن محمد أن الكراهة فيه للتحريم . والمعروف عن أكثر الحنفية فيه كراهة التنزيه . وجنح بعضهم إلى التحريم . وقال : اختلفت الأحاديث وتعذرت معرفة المتقدم فرجحنا جانب التحريم ، ودعوى التعذر ممنوعة بما تقدم قوله : ( في غائط مضبة ) قال النووي : فيه لغتان مشهورتان : إحداهما فتح الميم والضاد ، والثانية ضم الميم وكسر الضاد ، والأول أشهر وأفصح ، والمراد ذات ضباب كثيرة ، والغائط : الأرض المطينة . قوله : ( يدبون ) بكسر الدال .

قوله : ( ولا أدري لعل هذا منها ) قال القرطبي : إنما كان ذلك ظنا منه قبل أن يوحى إليه " إن الله لم يجعل لمسخ نسلا " فلما أوحي إليه بذلك زال التظنن وعلم أن الضب ليس مما مسخ كما في الحديث المذكور في الباب . ومن العجيب أن ابن العربي قال : إن قولهم : الممسوخ لا نسل له ، دعوى فإنه أمر لا يعرف بالعقل وإنما طريقه النقل وليس فيه أمر يعول عليه ، وكأنه لم يستحضره من صحيح مسلم ، ثم قال : وعلى تقدير كون الضب ممسوخا فذلك لا يقتضي تحريم أكله ; لأن كونه آدميا قد زال حكمه ولم يبق له أثر أصلا ، وإنما كره النبي - صلى الله عليه وسلم - الأكل منه لما وقع عليه من سخط الله كما كره الشرب من مياه ثمود ا هـ .

ولا منافاة بين كونه - صلى الله عليه وسلم - عاف الضب ، وبين ما ثبت أنه كان لا يعيب الطعام ; لأن عدم العيب إنما هو فيما صنعه الآدمي لئلا ينكسر خاطره [ ص: 137 ] وينسب إلى التقصير فيه . وأما الذي خلق كذلك فليس نفور الطبع منه ممتنعا . .

التالي السابق


الخدمات العلمية