صفحة جزء
باب ما جاء في الكي 3772 - ( عن جابر قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه } . رواه أحمد ومسلم ) .

3773 - ( وعن جابر أيضا : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ في أكحله مرتين } . [ ص: 235 ] رواه ابن ماجه ومسلم بمعناه ) .

3774 - ( وعن أنس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة } . رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب ) .

3775 - ( وعن المغيرة عن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل } رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه )

3776 - ( وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنهى أمتي عن الكي } رواه أحمد والبخاري وابن ماجه ) .

3777 - ( وعن عمران بن حصين : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي فاكتوينا فما أفلحن ولا أنجحن } . رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي وقال : فما أفلحنا ، ولا أنجحنا ) .


حديث أنس أخرجه الترمذي من طريق حميد بن مسعدة ، حدثنا بريدة بن زريع ، أخبرنا معمر عن الزهري عن أنس وإسناده حسن كما قال ، وحديث المغيرة صححه أيضا ابن حبان والحاكم . قوله : ( فقطع منه عرقا ) استدل بذلك على أن الطبيب يداوي بما ترجح عنده ، قال ابن رسلان : وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالأخف لا ينتقل إلى ما فوقه ، فمتى أمكن التداوي بالغذاء لا ينتقل إلى الدواء ، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب ، ومتى أمكن بالدواء لا يعدل إلى الحجامة ، ومتى أمكن بالحجامة لا يعدل إلى قطع العرق .

وقد روى ابن عدي في الكامل من حديث عبد الله بن جواد " قطع العروق مسقمة " كما في الترمذي وابن ماجه " ترك العشاء مهرمة " وإنما كواه بعد القطع لينقطع الدم الخارج من العرق المقطوع قوله : ( كوى سعد بن معاذ ) الكي : هو أن يحمى حديد ويوضع على عضو معلول ليحرق ويحبس دمه ولا يخرج أو لينقطع العرق الذي خرج منه الدم ، وقد جاء النهي عن الكي ، وجاءت الرخصة فيه ، [ ص: 236 ] والرخصة لسعد لبيان جوازه حيث لا يقدر الرجل أن يداوي العلة بدواء آخر ، وإنما ورد النهي حيث يقدر الرجل على أن يداوي العلة بدواء آخر لأن الكي فيه تعذيب بالنار ، ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار وهو الله تعالى ، ولأن الكي يبقى منه أثر فاحش ، وهذان نوعان من أنواع الكي الأربعة وهما النهي عن الفعل وجوازه ، والثالث : الثناء على من تركه كحديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة وقد تقدم ، والرابع : عدم محبته كحديث الصحيحين " وما أحب أن أكتوي " فعدم محبته يدل على أن الأولى عدم فعله ، والثناء على تركه يدل على أن تركه أولى ، فتبين أنه لا تعارض بين الأربعة . قال الشيخ أبو محمد بن حمزة : علم من مجموع كلامه في الكي أن فيه نفعا وأن فيه مضرة فلما نهى عنه علم أن جانب المضرة فيه أغلب ، وقريب منه إخبار الله تعالى أن في الخمر منافع ثم حرمها ; لأن المضار التي فيها أعظم من المنافع انتهى ملخصا قوله : ( من الشوكة ) هي داء معروف كما في القاموس ، قال في النهاية : هي حمرة تعلو الوجه والجسد يقال منه شيك فهو مشوك ، وكذلك إذا دخل ، في جسمه شوكة ومنه الحديث " وإذا شيك فلا انتقش " أي إذا شاكته شوكة فلا يقدر على انتقاشها وهو إخراجها بالمنقاش .

قوله : ( فقد برئ من التوكل ) قال في الهدي : أحاديث الكي التي في هذا الباب قد تضمنت أربعة أشياء : أحدها : فعله ، ثانيها : عدم محبته ، ثالثها : الثناء على من تركه ، رابعها : النهي عنه ، ولا تعارض فيها بحمد الله فإن فعله يدل على جوازه وعدم محبته لا يدل على المنع منه ، والثناء على تاركيه يدل على أن تركه أفضل والنهي عنه إما على سبيل الاختيار من دون علة أو عن النوع الذي يحتاج معه إلى كي انتهى . وقيل الجمع بين هذه الأحاديث أن المنهي عنه هو الاكتواء ابتداء قبل حدوث العلة كما يفعله الأعاجم ، والمباح هو الاكتواء بعد حدوث العلة . قوله : ( في شرطة محجم ) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم . قوله : ( أو شربة عسل ) قال في الفتح : العسل يذكر ويؤنث وأسماؤه تزيد على المائة .

وفيه من المنافع ما لخصه الموفق البغدادي وغيره فقالوا : يجلي الأوساخ التي في العروق والأمعاء ويدفع الفضلات ويغسل المعدة ويسخنها تسخينا معتدلا ويفتح أفواه العروق ويشد المعدة والكبد والكلى والمثانة ، وفيه تحليل للرطوبات أكلا وطلاء وتغذية ، وفيه حفظ للمعجونات وإذهاب لكيفية الأدوية المستكرهة وتنقية للكبد والصدر وإدرار البول والطمث ، وينفع للسعال الكائن من البلغم والأمزجة الباردة ، وإذا أضيف إليه الخل نفع أصحاب الصفراء . ثم هو غذاء من الأغذية ودواء من الأدوية وشراب من الأشربة وحلو من الحلاوات وطلاء من الأطلية ومفرح من المفرحات . ومن منافعه أنه إذا شرب حارا بدهن الورد نفع من نهش الحيوان ، وإذا شرب وحده بماء نفع من عضة [ ص: 237 ] الكلب ، وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر ، وكذا الخيار والقرع والباذنجان والليمون ونحو ذلك ، وإذا لطخ به البدن للقمل قتل القمل والصئبان وطول الشعر وحسنه ونعمه وإن اكتحل به جلا ظلمة البصر ، وإن استن به صقل الأسنان وحفظ صحتها .

وهو عجيب في حفظ جثة الموتى فلا يسرع إليها البلاء وهو مع ذلك مأمون الغائلة قليل المضرة ، ولم يكن يعول قدماء الأطباء في الأدوية المركبة إلا عليه ولا ذكر للسكر في أكثر كتبهم أصلا . وقد أخرج أبو نعيم في الطب النبوي بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رفعه وابن ماجه بسند ضعيف من حديث جابر رفعه { من لعق العسل ثلاث غدوات من كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء } . قوله : ( وأنهى أمتي عن الكي ) قال النووي : هذا الحديث من بديع الطب عند أهله لأن الأمراض الامتلائية دموية أو صفراوية أو سوداوية أو بلغمية ، فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم ، وإن كانت من الثلاثة الباقية فشفاؤها بالإسهال بالمسهل اللائق بكل خلط منها ، فكأنه نبه صلى الله عليه وسلم بالعسل على المسهلات وبالحجامة على إخراج الدم بها وبالفصد ووضع العلق وما في معناها ، وذكر الكي لأنه يستعمل عند عدم نفع الأدوية المشروبة ونحوها ، فآخر الطب الكي .

والنهي عنه إشارة إلى تأخير العلاج بالكي حتى يضطر إليه ما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي قوله : ( نهى عن الكي فاكتوينا ) قال ابن رسلان : هذه الرواية فيها إشارة إلى أنه يباح الكي عند الضرورة بالابتلاء بالأمراض المزمنة التي لا ينجع فيها إلا الكي ويخاف الهلاك عند تركه ، ألا تراه كوى سعدا لما لم ينقطع الدم من جرحه وخاف عليه الهلاك من كثرة خروجه كما يكوى من تقطع يده أو رجله ، ونهى عمران بن حصين عن الكي لأنه كان به باسور وكان موضعه خطرا فنهاه عن كيه ، فتعين أن يكون النهي خاصا بمن به مرض مخوف . ولأن العرب كانوا يرون أن الشافي لما لا شفاء له بالدواء هو الكي ، ويعتقدون أن من لم يكتو هلك ، فنهاهم عنه لأجل هذه النية ، فإن الله تعالى هو الشافي .

قال ابن قتيبة : الكي جنسان كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه لم يتوكل من اكتوى لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه . والثاني كي الجرح إذا لم ينقطع دمه بإحراق ولا غيره ، والعضو إذا قطع ففي هذا الشفاء بتقدير الله ، وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجح ويجوز أن لا ينجح فإنه إلى الكراهة أقرب . وقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع كما تقدم .

قوله : ( فما أفلحن ولا أنجحن ) هكذا الرواية الصحيحة بنون الإناث فيهما ، يعني تلك الكيات التي اكتويناهن وخالفنا النبي صلى الله عليه وسلم في فعلهن وكيف يفلح أو ينجح شيء خولف فيه صاحب الشريعة ، وعلى هذا فالتقدير فاكتوينا كيات لأوجاع فما أفلحن ولا أنجحن ، [ ص: 238 ] وهو أولى من أن يكون المحذوف الفاعل على تقدير فما أفلحن الكيات ولا أنجحن ; لأن حذف المفعول الذي هو فضلة أقوى من حذف الفاعل الذي هو عمدة ورواية الترمذي كما ذكره المصنف رحمه اللهفيكون الفلاح والنجاح مسندا فيها إلى المتكلم ومن معه .

وفي رواية لابن ماجه " فما أفلحت ولا أنجحت " بسكون تاء التأنيث بعد الحاء المفتوحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية