صفحة جزء
[ ص: 295 ] باب كراهية الحرص على الولاية وطلبها

3874 - ( عن أبي موسى قال : { دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي ، فقال أحدهما : يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل ، وقال الآخر مثل ذلك ، فقال : إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا حرص عليه } ) .

3875 - ( وعن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها } متفق عليهما ) .

3876 - ( وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من سأل القضاء وكل إلى نفسه ، ومن جبر عليه ينزل عليه ملك يسدده } رواه الخمسة إلا النسائي ) .

3877 - ( وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعة ، وبئست الفاطمة } رواه أحمد والبخاري والنسائي ) .

3878 - ( وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ، ومن غلب جوره عدله فله النار } رواه أبو داود . وقد حمل على ما إذا لم يوجد غيره ) .


حديث أنس أخرجه أيضا الطبراني في الأوسط من رواية عبد الأعلى التغلبي عن بلال بن أبي بردة الأشعري عن أنس مرفوعا بلفظ { من طلب القضاء واستعان عليه وكل إلى نفسه ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده } قال : لا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد تفرد به عبد الأعلى وأخرجه البزار من طريق عبد الأعلى عن بلال بن مرداس عن خيثمة عن أنس ، قال : ولا يعلم عن أنس إلا من هذا الوجه وأخرجه الترمذي من الطريقتين جميعا وقال : حسن غريب ، وقال في الرواية الثانية : أصح . وأخرجه الحاكم [ ص: 296 ] من طريق إسرائيل عن عبد الأعلى بن بلال عن خيثمة وصححه . وتعقب أن خيثمة لينه يحيى بن معين وعبد الأعلى ضعفه الجمهور وأخرج الحديث ابن المنذر بلفظ { من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه ، ومن أكره عليه أنزل الله ملكا يسدده }

وحديث أبي هريرة الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وسنده لا مطعن فيه ، فإن أبا داود قال : حدثنا عباس العنبري ، يعني ابن عبد العظيم أبا الفضل شيخ الشيخين ، حدثنا عمر بن يونس ، يعني اليمامي ، حدثنا ملازم بن عمرو يعني ابن عبد الله بن بدر اليمامي ، وثقه أحمد وابن معين والنسائي ، حدثني محمد بن نجدة ، يعني اليمامي عن جده يزيد بن عبد الرحمن يعني الذي يقال له أبو كثير السحيمي عن أبي هريرة فذكره قوله : ( أو أحدا حرص عليه ) بفتح المهملة والراء

قال العلماء : والحكمة في أنه لا يولي من يسأل الولاية أنه يوكل إليها ولا يكون معه إعانة كما في الحديث الذي بعده ، وإذا لم يكن معه إعانة لا يكون كفئا ولا يولى غير الكفء لأن فيه تهمة قوله : ( لا تسأل الإمارة ) هكذا في أكثر طرق الحديث ، ووقع في رواية بلفظ " لا تتمنين الإمارة " بصيغة النهي عن التمني مؤكدا بالنون الثقيلة

قال ابن حجر : والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب قوله : ( عن غير مسألة ) أي سؤال قوله " ( وكلت إليها ) بضم الواو وكسر الكاف مخففا ومشددا وسكون اللام ، ومعنى المخفف أي صرفت إليها ، وكل الأمر إلى فلان : صرفه إليه ، ووكله بالتشديد : استحفظه . ومعنى الحديث : أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه . ويستفاد من هذا أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه ، فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك ، وأن من حرص على ذلك لا يعان

ويعارض ذلك في الظاهر حديث أبي هريرة المذكور في آخر الباب . قال الحافظ : ويجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولي أو يحمل الطلب هنا على القصد وهناك على التولية . وبالجملة فإذا كان الطالب مسلوب الإعانة تورط فيما دخل فيه وخسر الدنيا والآخرة فلا تحل تولية من كان كذلك ربما كان الطالب للإمارة مريدا بها الظهور على الأعداء والتنكيل بهم فيكون في توليته مفسدة عظيمة

قال ابن التين : محمول على الغالب وإلا فقد قال يوسف عليه السلام { اجعلني على خزائن الأرض } وقال سليمان { وهب لي ملكا } قال : ويحتمل أن يكون في غير الأنبياء عليهم السلام انتهى . قلت : ذلك لوثوق الأنبياء بأنفسهم بسبب العصمة من الذنوب . وأيضا لا يعارض الثابت في شرعنا ما كان في شرع غيرنا ، فيمكن أن يكون الطلب في شرع يوسف عليه السلام سائغا

وأما سؤال سليمان فخارج عن محل النزاع ، إذ محله سؤال المخلوقين لا سؤال الخالق ، وسليمان عليه السلام إنما سأل الخالق قوله : ( إنكم [ ص: 297 ] ستحرصون ) بكسر الراء ويجوز فتحها ويدخل في لفظ الإمارة الإمارة العظمى وهي الخلافة والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد ، وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بالشيء قبل وقوعه فوقع كما أخبر قوله : ( وستكون ندامة يوم القيامة ) أي لمن لم يعمل فيها بما ينبغي

ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك بلفظ { أولها ملامة وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل } وفي الأوسط للطبراني من رواية شريك عن عبد الله بن عيسى عن أبي صالح عن أبي هريرة قال شريك : لا أدري رفعه أم لا قال { الإمارة أولها ندامة ، وأوسطها غرامة ، وآخرها عذاب يوم القيامة } وله شاهد من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ { أولها ملامة وثانيها ندامة } أخرجه الطبراني .

وعند الطبراني من حديث زيد بن ثابت رفعه { نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها تكون عليه حسرة يوم القيامة } قال الحافظ وهذا يقيد ما أطلق في الذي قبله ، ويقيد أيضا ما أخرجه مسلم عن أبي ذر { قلت : يا رسول الله ألا تستعملني ؟ قال : إنك ضعيف وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها } قال النووي : هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن كان فيه ضعف ، وهو من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة

وأما من كان أهلا وعدل فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار ، ولكن الدخول فيها خطر عظيم ، ولذلك امتنع الأكابر منها انتهى . وسيأتي حديث أبي ذر هذا قوله : { فنعم المرضعة وبئست الفاطمة } قال الداودي : نعمت المرضعة : أي في الدنيا ، وبئست الفاطمة : أي بعد الموت لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك ، فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني فيكون في ذلك هلاكه

وقال غيره : نعمت المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها ، وبئست الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره وما يترتب عليها من التبعات في الآخرة قوله : ( ثم غلب عدله جوره ) أي كان عدله في حكمه أكثر من ظلمه كما يقال : غلب على فلان الكرم : أي هو أكثر خصاله ، وظاهره أنه ليس من شرط الأجر الذي هو الجنة أن لا يحصل من القاضي جور أصلا ، بل المراد أن يكون جوره مغلوبا بعدله

فلا يضر الجور المغلوب بالعدل ، إنما الذي يضر ويوجب النار أن يكون الجور غالبا للعدل . قيل هذا الحديث محمول على ما إذا لم يوجد غير هذا القاضي الذي طلب القضاء جمعا بينه وبين أحاديث الباب قد تقدم طرف من الجمع

وبقي الكلام في استحقاق الأمير للإعانة هل يكون بمجرد إعطائه لها من غير مسألة كما يدل عليه حديث عبد الرحمن بن سمرة المذكور في الباب أم لا يستحقها إلا بالإكراه والإجبار كما يدل عليه [ ص: 298 ] حديث أنس المذكور أيضا ، فقال ابن رسلان : إن المطلق مقيد بما إذا أكره على الولاية وأجبر على قبولها فلا ينزل الله إليه الملك يسدده إلا إذا أكره على ذلك جبرا ، ولا يحصل هذا لمن عرضت عليه الولاية فقبلها من دون إكراه كما في لفظ الترمذي من رواية بلال بن مرداس { ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده } وقال : حسن غريب . ولا يخفى ما في حديث أنس من المقال الذي قدمناه من اضطراب ألفاظه التي أشرنا إلى بعضها وأكثر ألفاظه بدون ذكر الإجبار والإكراه كما في سنن أبي داود وغيرها

على أنه على فرض صحته وصلاحيته لا معارضة بينه وبين حديث عبد الرحمن بن سمرة لأن حديث عبد الرحمن فيه أن من أعطي الإمارة من غير مسألة أعين عليها ، وليس فيه نزول الملك للتسديد . وحديث أنس فيه أن من أجبر نزل عليه ملك يسدده ، فغايته أن الإعانة تحصل بمجرد إعطاء الإمارة من غير مسألة بخلاف نزول الملك فلا يحصل إلا بالإجبار فلا معارضة ولا إطلاق ولا تقييد إلا في حديث أنس نفسه فيمكن أن يحمل المطلق من ألفاظه على الإجبار والإكراه بالمقيد بهما إذا انتهض لذلك

لا يقال : إن إنزال الملك للتسديد نوع من الإعانة فتثبت المعارضة ، لأنا نقول : بعض أنواع الإعانة لا يعارض البعض الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية