صفحة جزء
باب التشديد في الولاية وما يخشى على من لم يقم بحقها دون القائم به

3879 - ( عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين } رواه الخمسة إلا النسائي ) .

3880 - ( وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على جهنم ، ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل ، فإن قال : ألقه ، ألقاه في مهوى فهوى أربعين خريفا } رواه أحمد وابن ماجه بمعناه )

3881 - ( وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ويل للأمراء ، ويل للعرفاء ويل للأمناء ، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت متعلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء } ) . [ ص: 299 ]

3882 - ( وعن عائشة قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { لتأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط } )

3883 - ( وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز وجل يوم القيامة يده إلى عنقه فكه بره ، أو أوبقه إثمه ، أولها ملامة ، وأوسطها ندامة ، وآخرها خزي يوم القيامة } ) .

3884 - ( وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من أمير عشرة إلا جيء به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه ، حتى يطلقه الحق أو يوبقه ، ومن تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم } رواهن أحمد )

3885 - ( وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله الله إلى نفسه } رواه ابن ماجه .

وفي لفظ { الله مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان } رواه الترمذي ) .

3886 - ( وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا } رواه أحمد ومسلم والنسائي ) .


حديث أبي هريرة الأول أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان وله طرق . وقد أعله ابن الجوزي فقال : هذا حديث لا يصح قال الحافظ ابن حجر : ليس كما قال ، وكفاه قوة تخريج النسائي له . وقد ذكر الدارقطني الخلاف فيه على سعيد المقبري

قال : والمحفوظ عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال المنذري : وفي إسناده عثمان بن محمد الأخنسي . قال النسائي : ليس بذاك القوي . قال : وإنما ذكرناه لئلا يخرج من الوسط ، ويجعل عن ابن أبي ذئب عن سعيد انتهى . فلا تتم التقوية بإخراج النسائي للحديث كما زعم الحافظ

وحديث ابن مسعود [ ص: 300 ] أخرجه أيضا البيهقي في شعب الإيمان والبزار وفي إسناده مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه جماعة . وحديث أبي هريرة الثاني حسنه السيوطي .

وحديث عائشة أخرجه أيضا العقيلي وابن حبان والبيهقي قال البيهقي : عمران بن حطان الراوي عن عائشة لا يتابع عليه ولا يتبين سماعه منها ووقع في رواية الإمام أحمد من طريقه قال : " دخلت على عائشة فذاكرتها حتى ذكرنا القاضي " فذكره ، قال في مجمع الزوائد : وإسناده حسن .

وحديث أبي أمامة حسنه السيوطي .

وفي معناه أحاديث منها حديث عبادة المذكور بعده . منها حديث أبي هريرة عن البيهقي في السنن بلفظ " ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا حتى يكفيه العدل أو يوبقه الجور " منها حديث ابن عباس { ما من أمير يؤمر على عشرة إلا سئل عنهم يوم القيامة } أخرجه الطبراني في الكبير وأخرج البيهقي حديثا آخر عن أبي هريرة بمعنى حديثه هذا . وحديث عبادة أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب من حديث سعد بن عبادة وحديث عبد الله بن أبي أوفى أخرجه أيضا الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن وابن حبان وحسنه الترمذي قوله : ( فقد ذبح بغير سكين ) بضم الذال المعجمة مبني للمجهول . قال ابن الصلاح : المراد ذبح من حيث المعنى لأنه بين عذاب الدنيا إن رشد وبين عذاب الآخرة إن فسد . وقال الخطابي ومن تبعه : إنما عدل عن الذبح بالسكين ليعلم أن المراد ما يخاف من هلاك دينه دون بدنه ، وهذا أحد الوجهين

والثاني أن الذبح بالسكين فيه إراحة للمذبوح ، وبغير السكين كالخنق أو غيره يكون الألم فيه أكثر ، فذكر ليكون أبلغ في التحذير . قال الحافظ في التلخيص : ومن الناس من فتن بحب القضاء فأخرجه عما يتبادر إليه الفهم من سياقه فقال : إنما قال : ذبح بغير سكين إشارة إلى الرفق به ، ولو ذبح بالسكين لكان أشق عليه ولا يخفى فساده انتهى .

وحكى ابن رسلان في شرح السنن عن أبي العباس أحمد بن القاص أنه قال : ليس في هذا الحديث عندي كراهة القضاء وذمه ، إذ الذبح بغير سكين مجاهدة النفس وترك الهوى والله تعالى يقول : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } ويدل على ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يا أبا هريرة عليك بطريق قوم إذا فزع الناس أمنوا ، قلت : من هم يا رسول الله ؟ قال : هم قوم تركوا الدنيا فلم يكن في قلوبهم ما يشغلهم عن الله ، قد أجهدوا أبدانهم وذبحوا أنفسهم في طلب رضا الله } فناهيك به فضيلة وزلفى لمن قضى بالحق في عباده إذ جعله ذبيح الحق امتحانا ، لتعظم له المثوبة امتنانا ، وقد ذكر الله قصة إبراهيم خليله عليه السلام وقوله : { يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } ، فإذا جعل الله إبراهيم في تسليمه لذبح ولده مصدقا فقد جعل ابنه لاستسلامه للذبح ذبيحا ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " أنا ابن الذبيحين "

[ ص: 301 ] يعني إسماعيل وعبد الله ، فكذلك القاضي عندنا لما استسلم لحكم الله واصطبر على مخالفة الأباعد والأقارب في خصوماتهم لم تأخذه في الله لومة لائم حتى قاده إلى مر الحق جعله ذبيحا للحق وبلغ به حال الشهداء الذين لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ، وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا ومعقل بن يسار فنعم الذابح ونعم المذبوح .

وفي كتاب الله الدليل على الترغيب فيه بقوله : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا } إلى آخر الآيات انتهى

وحديث أبي هريرة الذي ذكره لا أدري من أخرجه فيبحث عنه . وعلى كل حال فحديث الباب وارد في ترهيب القضاة لا في ترغيبهم ، وهذا هو الذي فهمه السلف والخلف ، ومن جعله من الترغيب فقد أبعد .

وقد استروح كثير من القضاة إلى ما ذكره أبو العباس ، وأنا وإن كنت حال تحرير هذه الأحرف منهم ولكن الله يحب الإنصاف ، وقد ورد في الترغيب في القضاء ما يغني عن مثل ذلك التكلف فأخرج الشيخان من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة { إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ، وإن أصاب فله أجران } .

ورواه الحاكم والدارقطني من حديث عقبة بن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بلفظ { إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ، وإن أصاب فله عشرة أجور } وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف ، وتابعه ابن لهيعة بغير لفظه ورواه أحمد من طريق عمرو بن العاص بلفظ { إن أصبت القضاء فلك عشرة أجور ، وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة } وإسناده ضعيف أيضا وأخرج أحمد في مسنده وأبو نعيم في الحلية عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال : { السابقون إلى ظل الله يوم القيامة : الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوا بذلوه ، وإذا حكموا بين الناس حكموا كحكمهم لأنفسهم } وهو من رواية ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عنها ، قال أبو نعيم : تفرد به ابن لهيعة عن خالد .

قال الحافظ : وتابعه يحيى بن أيوب عن عبد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم وهو ابن عبد الرحمن عن عائشة ورواه أبو العباس بن القاص في كتاب آداب القضاء له . ومن الأحاديث الواردة في الترغيب حديث عبد الله بن عمر المذكور في الباب .

منها حديث ابن عباس { إذا جلس الحاكم في مكانه هبط عليه ملكان يسددانه ويوفقانه ويرشدانه ما لم يجر ، فإذا جار عرجا وتركاه } أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن زيد الأشعري عن ابن جريج عن عطاء عنه وإسناده ضعيف قال صالح جزرة : هذا الحديث ليس له أصل . وروى الطبراني معناه من حديث واثلة بن الأسقع .

وفي البزار من رواية إبراهيم بن خثيم بن عراك عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا { من ولي من أمور المسلمين شيئا وكل الله به ملكا عن يمينه وأحسبه قال : وملكا عن شماله يوفقانه ويسددانه إذا أريد به خير ، ومن ولي من أمور المسلمين شيئا فأريد به غير ذلك وكل إلى نفسه } قال : ولا نعلمه يروى بهذا [ ص: 302 ] اللفظ إلا من حديث عراك ، وإبراهيم ليس بالقوي

ومن أحاديث الترغيب حديث عبد الله بن أبي أوفى المذكور في الباب . ولكن هذه الترغيبات إنما هي في حق القاضي العادل الذي لم يسأل القضاء ولا استعان عليه بالشفعاء ، وكان لديه من العلم بكتاب الله وسنة رسوله ما يعرف به الحق من الباطل بعد إحراز مقدار من آلاتهما يقدر به على الاجتهاد في إيراده وإصداره . وأما من كان بعكس هذه الأوصاف أو بعضها فقد أوقع نفسه في مضيق وباع آخرته بدنياه ; لأن كل عاقل يعلم أن من تسلق للقضاء وهو جاهل بالشريعة المطهرة جهلا بسيطا أو جهلا مركبا ، أو من كان قاصرا عن رتبة الاجتهاد فلا حامل له على ذلك إلا حب المال والشرف أو أحدهما ، إذ لا يصح أن يكون الحامل من قبيل الدين ; لأن الله لم يوجب على من لم يتمكن من الحكم بما أنزل من الحق أن يتحمل هذا العبء الثقيل قبل تحصيل شرطه الذي يحرم قبوله قبل حصوله

فعلم من هذا أن الحامل للمقصرين على التهافت على القضاء والتوثب على أحكام الله بدون ما شرطه ليس إلا الدنيا لا الدين ، فإياك والاغترار بأقوال قوم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فإذا لبسوا لك أثواب الرياء والتصنع ، وأظهروا شعار التغرير والتدليس والتلبيس وقالوا : ما لهم بغير الحق حاجة ، ولا أرادوا إلا تحصيل الثواب الأخروي فقل لهم : دعوا الكذب على أنفسكم يا قضاة النار بنص المختار ، فلو كنتم تخشون الله وتتقونه حق تقاته لما أقدمتم على المخاطرة بادئ بدء بدون إيجاب من الله ولا إكراه من سلطان ولا حاجة من المسلمين

وقد كثر التتابع من الجهلة في هذا المنصب الشريف واشتروه بالأموال ممن هو أجهل منهم حتى عمت البلوى جميع الأقطار اليمنية قوله : ( فهوى أربعين خريفا ) قال في النهاية : هو الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء ويريد به أربعين سنة ; لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة ، فإذا انقضى أربعون خريفا انقضت أربعون سنة قوله : ( ويل للعرفاء ) بضم العين المهملة وفتح الراء والفاء جمع عريف

قال في النهاية : وهو القيم بأمور القبيلة والجماعة من الناس يلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم ، فعيل بمعنى فاعل ، والعرافة عمله . وسبب الوعيد لهذه الطوائف الثلاث وهم الأمراء والعرفاء والأمناء أنهم يقبلون ويطاعون فيما يأتون به فإذا جاروا على الرعايا جاروا وهم قادرون فيكون ذلك سببا لتشديد العقوبة عليهم ; لأن حق شكر النعمة التي امتازوا بها على غيرهم أن يعدلوا ويستعملوا الشفقة والرأفة قوله

( أو أوبقه إثمه ) بالباء الموحدة والقاف . قال في النهاية : يقال وبق يبق ، ووبق يوبق : إذا هلك وأوبقه غيره فهو موبق قوله : ( وكلتا يديه يمين ) قال في النهاية : أي أن يديه تبارك وتعالى بصفة الكمال لا نقص في واحدة منهما ; لأن الشمال تنقص عن اليمين . وكل ما جاء في القرآن والحديث من إضافة اليد والأيدي واليمين وغير ذلك [ ص: 303 ] من أسماء الله فإنما هو على سبيل المجاز والاستعارة ، والله منزه عن التشبيه والتجسيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية