صفحة جزء
باب النهي عن الحكم في حال الغضب إلا أن يكون يسيرا لا يشغل

3902 - ( عن أبي بكرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان } رواه الجماعة )

3903 - ( وعن عبد الله بن الزبير عن أبيه : أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر ، فأبى عليه ، فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : { اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك ، فغضب الأنصاري ثم قال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، فقال الزبير : والله إني لا أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الآية } رواه الجماعة ، لكنه للخمسة إلا النسائي من رواية عبد الله بن الزبير لم يذكر فيه عن أبيه وللبخاري في رواية قال : خاصم الزبير رجلا وذكر نحوه ، وزاد فيه : فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه ، وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم . قال عروة : قال الزبير : فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك { فلا وربك } الآية . رواه أحمد كذلك لكن قال : عن عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا [ ص: 314 ] وذكره ، جعله من مسنده وزاد البخاري في رواية : قال ابن شهاب : فقدرت الأنصار والناس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " ، فكان ذلك إلى الكعبين .

وفي الخبر من الفقه جواز الشفاعة للخصم والعفو عن التعزير ) .


قوله : ( لا يقضين . . . إلخ ) قال المهلب : سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع ، وبذلك قال فقهاء الأمصار . وقال ابن دقيق العيد : النهي عن الحكم حالة الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه .

قال : وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين ، وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر وهو قياس مظنة على مظنة ، وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره . وقد أخرج البيهقي بسند ضعيف عن أبي سعيد رفعه { لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان } انتهى . وسبب ضعفه أن في إسناده القاسم العمري وهو متهم بالوضع .

وظاهر النهي التحريم ولا موجب لصرفه عن معناه الحقيقي إلى الكراهة ، فلو خالف الحاكم فحكم في حال الغضب فذهب الجمهور إلى أنه يصح إن صادف الحق ; لأنه صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بعد أن أغضبه كما في حديث الباب ، فكأنهم جعلوا ذلك قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة ، ولا يخفى أنه لا يصح إلحاق غيره صلى الله عليه وسلم به في مثل ذلك لأنه معصوم عن الحكم بالباطل في رضاه وغضبه بخلاف غيره فلا عصمة تمنعه عن الخطأ ، ولهذا ذهب بعض الحنابلة إلى أنه لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهي عنه ، والنهي يقتضي الفساد . وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر وإلا فهو محل الخلاف .

قال الحافظ ابن حجر : وهو تفصيل معتبر . وقيد إمام الحرمين والبغوي الكراهة بما إذا كان الغضب لغير الله ، واستغرب الروياني هذا واستبعده غيره لمخالفته لظاهر الحديث ، وللمعنى الذي لأجله نهى عن الحكم حال الغضب . وذكر ابن المنير أن الجمع بين حديثي الباب بأن يجعل الجواز خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لوجود العصمة في حقه والأمن من التعدي ، أو أن غضبه إنما كان للحق فمن كان في مثل حاله جاز وإلا منع وقد تعقب القول بالتحريم وعدم انعقاد الحكم بأن النهي الذي يفيد فساد المنهي عنه هو ما كان لذات المنهي عنه أو لجزئه أو لوصفه الملازم له لا المفارق كما هنا ، وكما في النهي عن البيع حال النداء للجمعة ، وهذه قاعدة مقررة في الأصول مع اضطراب فيها وطول نزاع وعدم اطراد . قوله : ( أن رجلا من الأنصار ) اسمه ثعلبة بن حاطب وقيل حميد ، وقيل حاطب بن أبي بلتعة ولا يصح لأنه ليس بأنصاري ، وقيل إنه [ ص: 315 ] ثابت بن قيس بن شماس ، وإنما ترك صلى الله عليه وسلم قتله بعد أن جاء في مقاله بما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم جار في الحكم لأجل القرابة لأن ذلك كان في أوائل الإسلام ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس إذ ذاك ، كما ترك قتل عبد الله بن أبي بعد أن جاء بما يسوغ به قتله .

وقال القرطبي : يحتمل أنه لم يكن منافقا بل صدر منه ذلك عن غير قصد كما اتفق لحاطب بن أبي بلتعة ومسطح وحمنة وغيرهم ممن بدره لسانا بدرة شيطانية قوله : ( في شراج ) بكسر الشين المعجمة وراء مهملة بعد الألف جيم : وهي مسايل النخل ، والشجر واحدتها شرجة ، وإضافتها إلى الحرة لكونها فيها ، والحرة بفتح الحاء المهملة : هي أرض ذات حجارة سود قوله : ( سرح الماء ) بفتح السين المهملة وتشديد الراء المكسورة ثم حاء مهملة : أي أرسله قوله : ( ثم أرسل إلى جارك ) كان هذا على سبيل الصلح ( قوله أن كان ابن عمتك ) بفتح الهمزة لأنه استفهام للاستنكار : أي حكمت بهذا لكونه ابن عمتك قوله : ( حتى يرجع الماء إلى الجدر ) بفتح الجيم وسكون الدال المهملة وهو الجدار ، والمراد به أصل الحائط ، وقيل أصول الشجر والصحيح الأول .

وفي الفتح أن المراد به هنا : المسناة وهي ما وضع بين شريات النخل كالجدار ، ويروى الجدر بضم الجيم والدال جمع جدار . وحكى الخطابي الجذر بسكون الذال المعجمة وهو جذر الحساب ،

والمعنى حتى يبلغ تمام الشرب .

وفي بعض طرق الحديث " حتى يبلغ الماء الكعبين " رواه أبو داود قوله : ( فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بالحاء المهملة : أي أثار حفيظته . قال في الفتح : أحفظه بالمهملة والظاء المشالة : أي أغضبه قوله : ( فاستوعى ) أي استوفى ، وهو من الوعاء كأنه جمعه له في وعائه قوله : ( فقدرت الأنصار والناس ) هو من عطف العام على الخاص قوله : ( فكان ذلك إلى الكعبين ) يعني أنهم لما رأوا أن الجدر يختلف بالطول والقصر قاسوا ما وقعت فيه القصة فوجدوه يبلغ الكعبين فجعلوا ذلك معيار الاستحقاق الأول فالأول ، والمراد بالأول هنا من يكون مبدأ الماء من ناحيته ، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب " الناس شركاء في ثلاث " من كتاب إحياء الموات

التالي السابق


الخدمات العلمية