صفحة جزء
باب إن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا لا باطنا

3909 - ( وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار } رواه الجماعة وقد احتج به من لم ير أن يحكم الحاكم بعلمه ) .


قوله : ( إنما أنا بشر ) البشر يطلق على الجماعة والواحد بمعنى أنه منهم ، والمراد أنه مشارك للبشر في أصل الخلقة ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها في ذاته وصفاته ، والحصر هنا مجازي لأنه يختص بالعلم الباطن ويسمى قصر قلب لأنه أتى به ردا على من زعم أن من كان رسولا فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم من الظالم ، وقد أطال الكلام على بيان معنى هذا الحصر علماء المعاني والبيان فليرجع إلى ذلك قوله : ( ألحن ) بالنصب على أنه خبر كان : أي أفطن بها ، ويجوز أن يكون معناه أفصح تعبيرا عنها وأظهر احتجاجا حتى يخيل أنه محق وهو في الحقيقة مبطل . والأظهر أن معناه أبلغ كما وقع في رواية في الصحيحين : أي أحسن إيرادا للكلام ، ولا بد في هذا التركيب من تقدير محذوف لتصحيح معناه : أي وهو كاذب ، ويسمى هذا عند الأصوليين دلالة اقتضاء لأن هذا المحذوف اقتضاه اللفظ الظاهر المذكور بعده

وقال في النهاية : اللحن : الميل عن جهة الاستقامة ، يقال لحن فلان في كلامه إذا مال عن صحيح المنطق ، وأراد أن بعضهم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره ، ويقال لحنت لفلان : إذا قلت له قولا يفهمه ويخفى على غيره لأنك تميله بالتورية عن الواضح المفهوم انتهى قوله : ( فإنما أقطع له قطعة من النار ) أي الذي قضيت له بحسب الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه فهو عليه حرام يئول به إلى أهل النار وهو تمثيل يفهم منه شدة التعذيب على ما يتعاطاه فهو من مجاز لا يستحقه كقوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } وقد قدمنا الكلام على بعض ألفاظ الحديث في كتاب الصلح فوقع تكرار البعض هنا لتكرار الفائدة

وفي [ ص: 321 ] الحديث دليل على إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئا هو في الباطن حرام عليه ، وأن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقا في الظاهر ويحكم له به أنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم .

وفيه أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر كما في الحديث الصحيح ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر .

وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء ، وخالف في ذلك قوم ، وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم ، وفيه أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به ، ويكون في الباطن بخلاف ذلك . قال الحافظ : لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه صلى الله عليه وسلم لثبوت عصمته

واحتج من منع مطلقا بأنه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الأمر باتباعه في جميع أحكامه حتى قال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الآية ، وبأن الإجماع معصوم من الخطأ فالرسول أولى بذلك . وأجيب عن الأول بأن الأمر إذا استلزم الخطأ لا محذور فيه لأنه موجود في حق المقلدين فإنهم مأمورون باتباع المفتي والحاكم ولو جاز عليه الخطأ . وأجيب عن الثاني برد الملازمة ، فإن الإجماع إذا فرض وجوده دل على أن مستندهم ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فرجع الاتباع إلى الرسول لا إلى نفس الإجماع . قال الحافظ : وفي الحديث أيضا أن من ادعى مالا ولم يكن له بينة فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف أنه لا يبرأ في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم . والحديث حجة لمن أثبت أنه قد يحكم صلى الله عليه وسلم بالشيء في الظاهر ويكون الأمر في الباطن بخلافه ، ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم منه محال عقلا ولا نقلا

وأجاب من منع بأن الحديث يتعلق بالحكومات الواقعة في فصل الخصومات المبنية على الإقرار أو البينة ، ولا مانع من وقوع ذلك فيها ، ومع ذلك لا يقر على الخطإ ، وإنما الذي يمتنع وقوع الخطإ فيه أن يخبر عن أمر بأن الحكم الشرعي فيه كذا ويكون ذلك ناشئا عن اجتهاده فإنه لا يكون إلا حقا لقوله تعالى: { وما ينطق عن الهوى . } وأجيب بأن ذلك يستلزم الحكم الشرعي فيعود الإشكال كما كان ، والمقام يحتاج إلى بسط طويل ومحله الأصول فليرجع إليها . قال الطحاوي : ذهب قوم إلى أن الحكم بتمليك مال أو إزالة ملك أو إثبات نكاح أو فرقة أو نحو ذلك إن كان في الباطن كما هو في الظاهر نفذ على ما حكم به ، وإن كان في الباطن على خلاف ما استند إليه الحاكم من الشهادة أو غيرها لم يكن الحكم موجبا للتمليك ولا الإزالة ولا النكاح ولا الطلاق ولا غيرها وهو قول الجمهور ، ومعهم أبو يوسف . وذهب آخرون إلى أن الحكم إن كان في مال وكان الأمر في الباطن بخلاف ما استند إليه الحاكم من الظاهر لم يكن ذلك موجبا لحله للمحكوم له ، وإن كان في نكاح أو طلاق فإنه ينفذ ظاهرا وباطنا وحملوا [ ص: 322 ] حديث الباب على ما ورد فيه وهو المال . واحتجوا لما عداه بقصة المتلاعنين فإنه صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين مع احتمال أن يكون الرجل قد صدق فيما رماها به

قالوا : فيؤخذ من هذا أن كل قضاء ليس فيه تمليك مال أنه على الظاهر ولو كان الباطن بخلافه وأن حكم الحاكم يحدث في ذلك التحريم والتحليل بخلاف الأموال . وتعقب بأن الفرقة في اللعان إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب وهو أصل برأسه فلا يقاس عليه . وقال بعض الحنفية مجيبا على من استدل بالحديث لما تقدم بأن ظاهر الحديث يدل على أن ذلك مخصوص بما يتعلق بسماع كلام الخصم حيث لا بينة هناك ولا يمين وليس النزاع فيه ، وإنما النزاع في الحكم المرتب على الشهادة وبأن " من " في قوله : " فمن قضيت له " شرطية ، وهي لا تستلزم الوقوع فيكون من فرض ما لم يقع وهو جائز فيما يتعلق به غرض وهو هنا محتمل لأن يكون للتهديد والزجر عن الإقدام على أخذ أموال الناس بالمبالغة في الخصومة ، وهو وإن جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنا في العقود والفسوخ لكنه لم يسبق لذلك فلا يكون فيه حجة لمن منع ، وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه صلى الله عليه وسلم يقر على الخطإ لأنه لا يكون ما قضى به قطعة من النار إلا إذا استمر الخطأ وإلا فمتى فرض أنه يطلع عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه

وظاهر الحديث يخالف ذلك فإما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم ، وإما أن يستلزم استمرار التقرير على الخطإ وهو باطل . والجواب عن الأول أنه خلاف الظاهر بل من التحريف الذي لا يفعله منصف وكذا الثاني . والجواب عن الثالث أن الخطأ الذي لا يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لم يوح إليه فليس النزاع فيه ، وإنما النزاع في الحكم الصادر منه عن شهادة زور أو يمين فاجرة فلا يسمى خطأ للاتفاق على العمل بالشهادة وبالأيمان وإلا لكان الكثير من الأحكام يسمى خطأ وليس كذلك لما في حديث { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم } فيحكم بإسلام من تلفظ بالشهادتين ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك

ولما في حديث المتلاعنين حيث قال : { لولا الأيمان لكان لي ولها شأن } فإنه لو كان خطأ لم يترك استدراكه والعمل بما عرفه . وكذلك حديث { إني لم أومر بالتنقيب عن قلوب الناس } فالحجة من حديث الباب شاملة للأموال والعقود والفسوخ . وقد حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام . قال النووي : والقول بأن حكم الحاكم يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح وللإجماع المذكور ولقاعدة أجمع عليها العلماء ووافقهم القائل المذكور وهي أن الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال ، وفي المقام مقاولات ومطاولات ، ومع وضوح الصواب لا فائدة في الإطناب ، وقد استدل المصنف رحمه الله تعالىبالحديث على [ ص: 323 ] أن الحاكم لا يحكم بعلمه ، وسيأتي الكلام على ذلك في باب مستقل إن شاء الله تعالى

وفيه الرد على من حكم بما يقع في خاطره من غير استناد إلى أمر خارجي من بينة ونحوها . ووجه الرد عليه أنه صلى الله عليه وسلم أعلى في ذلك من غيره مطلقا ، ومع ذلك فقد دل حديثه هذا على أنه إنما يحكم بالظاهر في الأمور العامة فلو كان المدعى صحيحا لكان الرسول أحق بذلك فإنه أعلم أنه تجري الأحكام على ظاهرها مع أنه يمكن أن الله يطلعه على غيب كل قضية . وسبب ذلك أن تشريع الأحكام واقع على يده فكأنه أراد تعليم غيره من الحكام أن يعتمدوا ذلك ، نعم لو شهدت البينة مثلا بخلاف ما يعلمه مشاهدة أو سماعا أو ظنا راجحا لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة

قال الحافظ : ونقل بعضهم فيه الاتفاق وإن وقع الاختلاف فيه في القضاء بالعلم كما سيأتي

التالي السابق


الخدمات العلمية