صفحة جزء
باب ما جاء في شهادة أهل الذمة بالوصية في السفر

3920 - ( عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما رواه أبو داود والدارقطني بمعناه )

3921 - ( وعن جبير بن نفير قال : دخلت على عائشة فقالت : هل تقرأ سورة المائدة ؟ قلت : نعم ، قالت : فإنها آخر سورة أنزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه رواه أحمد )

3922 - ( { وعن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء ، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدموا بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب ، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة ، فقالوا : ابتعناه من تميم وعدي بن بداء ، فقام رجلان من أوليائه فحلفا : لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وإن الجام لصاحبهم ، قال : وفيهم نزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } } رواه البخاري وأبو داود ) .


حديث أبي موسى سكت عنه أبو داود والمنذري . قال الحافظ في الفتح : إن رجال إسناده ثقات ا هـ . وسياقه عند أبي داود قال : حدثنا زياد بن أيوب ، يعني الطوسي شيخ البخاري ، حدثنا هشيم ، أخبرنا زكريا ، يعني ابن أبي زائدة عن الشعبي ، وأثر عائشة رجاله في المسند رجال الصحيح ، وأخرجه أيضا الحاكم قال في الفتح : صح عن عائشة وابن عباس وعمرو بن شرحبيل وجمع من السلف أن سورة المائدة محكمة . وحديث ابن عباس قال البخاري في صحيحه وقال لي علي بن المديني فذكره . قال المنذري : وهذه [ ص: 338 ] عادته فيما لم يكن على شرطه ، وقد تكلم علي بن المديني على هذا الحديث وقال : لا أعرف ابن أبي القاسم وقال : وهو حديث حسن ا هـ . وابن أبي القاسم هذا هو محمد بن أبي القاسم ، قال يحيى بن معين : ثقة قد كتبت عنه ، وكذلك وثقه أبو حاتم وتوقف فيه البخاري وأخرج هذا الحديث الترمذي وقال : حسن غريب . وقد أشار في الفتح إلى مثل كلام المنذري فقال : على قول البخاري ، وقال لي علي بن المديني ، وهذا مما يقوي مما قررته غير مرة أنه يعبر بقوله : وقال لي في الأحاديث التي سمعها ، لكن حيث يكون في إسنادها عنده نظر أو حيث تكون موقوفة . وأما من زعم أنه يعبر بها فيما أخذه في المذاكرة أو بالمناولة فليس عليه دليل . . قوله : ( بدقوقا ) بفتح الدال المهملة وضم القاف وسكون الواو بعدها قاف مقصورة وقد مدها بعضهم : وهي بلد بين بغداد وإربل

قوله : ( من أهل الكتاب ) يعني نصرانيين كما بين ذلك البيهقي وبين أن الرجل من خثعم ، ولفظه عن الشعبي " توفي رجل من خثعم فلم يشهد موته إلا رجلان نصرانيان " . قوله : ( فأحلفهما ) يقال في المتعدي : أحلفته إحلافا وحلفته بالتشديد تحليفا واستحلفته . قوله : ( بعد العصر ) هذا يدل على جواز التغليظ بزمان من الأزمنة . قوله : ( ولا بدلا ) بتشديد الدال . قوله : ( من بني سهم ) هو بديل بضم الموحدة وفتح الدال مصغرا ، وقيل : بريل بالراء المهملة . قوله : ( وعدي بن بداء ) بفتح الموحدة وتشديد المهملة مع المد . قوله : ( فقدوا جاما ) بالجيم وتخفيف الميم : أي إناء

قوله : ( مخوصا ) بخاء معجمة وواو ثقيلة بعدها مهملة أي منقوشا فيه صفة الخوص . ووقع في رواية " مخوضا " بالضاد المعجمة أي مموها والأول أشهر . قوله : ( فقام رجلان . . . إلخ ) وقع في رواية الكلبي " فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم " قال مقاتل بن سليمان : هو المطلب بن أبي وداعة وهو سهمي ولكنه سمى الأول عبد الله بن عمرو بن العاص . واستدل بهذا الحديث على جواز رد اليمين على المدعي فيحلف ويستحق . واستدل به ابن سريج الشافعي على الحكم بالشاهد واليمين ، وتكلف في انتزاعه فقال : قوله تعالى: { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } لا يخلو إما أن يقرا أو يشهد عليهما شاهدان ، أو شاهد وامرأتان ، أو شاهد واحد ، قال : وقد أجمعوا على أن الإقرار بعد الإنكار لا يوجب يمينا على الطالب ، وكذلك مع الشاهدين ومع الشاهد والمرأتين فلم يبق إلا شاهد واحد ، فلذلك استحقه الطالبان بيمينهما مع الشاهد الواحد

وتعقبه الحافظ بأن القصة وردت من طرق متعددة في سبب النزول وليست في شيء منها أنه كان هناك من يشهد بل في رواية الكلبي " فسألهم البينة فلم يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه " أي عديا بما يعظم على أهل دينه . واستدل بهذا الحديث على جواز شهادة الكفار بناء على أن المراد بالغير في الآية الكريمة الكفار ، والمعنى منكم : [ ص: 339 ] أي من أهل دينكم أو آخران من غيركم : أي من غير أهل دينكم ، وبذلك قال أبو حنيفة ومن تبعه . وتعقب بأنه لا يقول بظاهرها فلا يجيز شهادة الكفار على المسلمين ، وإنما يجيز شهادة بعض الكفار على بعض

وأجيب بأن الآية دلت بمنطوقها على قبول شهادة الكافر على المسلم ، وبإيمائها على قبول شهادة الكافر على الكافر بطريق الأولى ، ثم دل الدليل على أن شهادة الكافر على المسلم غير مقبولة ، فبقيت شهادة الكافر على الكافر على حالها . وهذا الجواب على التعقب في غير محله لأن التعقب هو باعتبار ما يقوله أبو حنيفة لا باعتبار استدلاله ، وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذ ، ومنهم ابن عباس وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وشريح وابن سيرين والأوزاعي والثوري وأبو عبيد وأحمد وأخذوا بظاهر الآية وحديث الباب فإن سياقه مطابق لظاهر الآية . وقيل المراد بالغير غير العشيرة والمعنى منكم : أي من عشيرتكم { أو آخران من غيركم } أي من غير عشيرتكم ، وهو قول الحسن البصري

واستدل له النحاس بأن لفظ آخر لا بد أن يشارك الذي قبله في الصفة حتى لا يسوغ أن يقول : مررت برجل كريم ولئيم آخر ، فعلى هذا فقد وصف الاثنان بالعدالة فتعين أن يكون الآخران كذلك . وتعقب بأن هذا وإن ساغ في الآية لكن الحديث دل على خلاف ذلك ، والصحابي إذا حكى سبب النزول كان ذلك في حكم الحديث المرفوع . قال في الفتح : اتفاقا . وأيضا ففيما قال رد المختلف فيه بالمختلف فيه ; لأن اتصاف الكافر بالعدالة مختلف فيه وهو فرع قبول شهادته ، فمن قبلها وصفه بها ومن لا فلا

واعترض أبو حيان على المثال الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق . فلو قلت : جاءني رجل مسلم وآخر كافر صح ، بخلاف ما لو قلت : جاءني رجل مسلم وكافر آخر . والآية من قبيل الأول لا الثاني لأن قوله " آخران " من جنس قوله : اثنان ; لأن كلا منهما صفة رجلان ، فكأنه قال : فرجلان اثنان ورجلان آخران . وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء . } واحتجوا بالإجماع على رد شهادة الفاسق ، والكافر شر من الفاسق

وأجاب الأولون أن النسخ لا يثبت بالاحتمال وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما وبأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن وأنها محكمة كما تقدم وأخرج الطبري عن ابن عباس بإسناد رجاله ثقات أن الآية نزلت فيمن مات مسافرا وليس عنده أحد من المسلمين ، وأنكر أحمد على من قال إن هذه الآية منسوخة . وقد صح عن أبي موسى الأشعري أنه عمل بذلك كما في حديث الباب . وذهب الكرابيسي والطبري وآخرون إلى أن المراد بالشهادة في الآية اليمين . قالوا : وقد سمى الله اليمين شهادة في آية اللعان وأيدوا ذلك بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول أشهد بالله ، وأن [ ص: 340 ] الشاهد لا يمين عليه أنه شهد بالحق قالوا : فالمراد بالشهادة اليمين لقوله : { فيقسمان بالله } أي يحلفان ، فإن عرف أنهما حلفا على الإثم رجعت اليمين على الأولياء . وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيها عدد ولا عدالة ، بخلاف الشهادة

وقد اشترط في القصة فقوي حملها على أنها شهادة . وأما اعتلال من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياس والأصول لما فيها من قبول شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه وشهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين ، فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره ، وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب ، وليس المراد بالحبس السجن ، وإنما المراد الإمساك لليمين ليحلف بعد الصلاة . وأما تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه الصورة عند قيام الريبة . وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين فإن الآية تضمنت نقل الأيمان إليهم عند ظهور اللوث بخيانة الوصيين فيشرع لهما أن يحلفا ويستحقا كما يشرع لمدعي القسامة أن يحلف ويستحق فليس هو من شهادة المدعي لنفسه بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة لقوة جانبه ، وأي فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم وظهوره في صحة الدعوى بالمال

وحكى الطبري أن بعضهم قال : المراد بقوله : { اثنان ذوا عدل منكم } الوصيان . قال : والمراد بقوله : { شهادة بينكم } معنى الحضور بما يوصيهما به الوصي ثم زيف ذلك ، وهذا الحكم يختص بالكافر الذمي . وأما الكافر الذي ليس بذمي فقد حكي في البحر الإجماع على عدم قبول شهادته على المسلم مطلقا . .

التالي السابق


الخدمات العلمية