صفحة جزء
[ ص: 358 ] باب ذم من حلف قبل أن يستحلف

3944 - ( عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بالجابية فقال : يا أيها الناس إني قمت فيكم كقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ، قال : { أوصيكم بأصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ، ويشهد الشاهد ولا يستشهد ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن } رواه أحمد والترمذي ) .


قال الترمذي بعد إخراج هذا الحديث : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه . وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى . وأخرجه أيضا ابن حبان وصححه قوله : ( أوصيكم بأصحابي ) قد وقع الاختلاف فيمن يستحق إطلاق اسم الصحابي عليه وهو مبسوط في مواطنه من علم الاصطلاح قوله : ( الجابية ) بالجيم . قال في القاموس : هو حوض ضخم ، والجماعة ، وقرية بدمشق . وباب الجابية من أبوابها انتهى . والمراد هنا القرية قوله : ( ثم يفشو الكذب ) رتب صلى الله عليه وسلم فشو الكذب على انقراض الثالث . فالقرن الذي بعده ثم من بعده إلى القيامة قد فشا فيهم الكذب بهذا النص

فعلى المتيقظ من حاكم أو عالم أن يبالغ في تعرف أحوال الشهادة والمخبرين ، وأن لا يجعل الأصل في ذلك الصدق لأن كل شهادة وكل خبر قد دخله الاحتمال ومع دخول الاحتمال يمتنع القبول إلا بعد معرفة صدق المخبر والشاهد بأي دليل . وأقل الأحوال أنه ليس ممن يتجارأ على الكذب ويجازف في أقواله . ومن هذه الحيثية لم يقبل المجهول عند علماء المنقول ; لأن العدالة ملكة ، والملكات مسبوقة بالعدم فمن لا تعرف عدالته لا تقبل روايته ، لأن الفسق مانع فلا بد من تحقق عدمه . وكذلك الكذب مانع فلا بد من تحقق عدمه كما تقرر في الأصول .

وفي الحديث التوصية بخير القرون وهم الصحابة ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . وقد وعدنا أن نذكر ههنا طرفا من الكلام على ما ورد من معارضة الأحاديث القاضية بأفضلية الصحابة فنقول : قد تقدم في باب من أعلم صاحب الحق [ ص: 359 ] بشهادة له عنده وذم من أدى شهادة من غير مسألة حديث عمران بن حصين . وحديث أبي هريرة " أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم "

وفي ذلك دليل على أنهم الخيار من هذه الأمة وأنه لا أكثر خيرا منهم . وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك باعتبار كل فرد فرد . وقال ابن عبد البر : إن التفضيل إنما هو بالنسبة إلى مجموع الصحابة فإنهم أفضل ممن بعدهم لا كل فرد منهم .

وقد أخرج الترمذي بإسناد قوي من حديث أنس مرفوعا { مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره } وأخرجه وأبو يعلى في مسنده بإسناد ضعيف وصححه ابن حبان من حديث عمار

وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير بإسناد حسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ليدركن المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير ثلاثا ، ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها } ولكنه مرسل لأن عبد الرحمن تابعي .

وأخرج الطيالسي بإسناد ضعيف عن عمر رفعه { أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولا يروني } وأخرج أحمد والدارمي والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي جمعة قال : قال أبو عبيدة { يا رسول الله أحد خير منا ، أسلمنا معك وجاهدنا معك ؟ قال : قوم يكونون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني } وقد صححه الحاكم وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رفعه { بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء } وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة رفعه { تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين ، قيل منهم أو منا يا رسول الله ؟ قال : بل منكم } وجمع الجمهور بأن الصحبة لها فضيلة ومزية لا يوازيها شيء من الأعمال ، فلمن صحب النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة الصحبة وإن قصر في الأعمال ، وفضيلة من بعد الصحابة باعتبار كثرة الأعمال المستلزمة لكثرة الأجور . فحاصل هذا الجمع أن التنصيص على فضيلة الصحبة باعتبار فضيلة الصحبة . وأما باعتبار أعمال الخير فهم كغيرهم قد يوجد فيمن بعدهم من هو أكثر أعمالا منهم أو من بعضهم ، فيكون أجره باعتبار ذلك أكثر فكان أفضل من هذه الحيثية ، وقد يوجد فيمن بعدهم ممن هو أقل عملا منهم أو من بعضهم ، فيكون مفضولا من هذه الحيثية ، ويشكل على هذا الجمع ما ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحبة بلفظ { لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } فإن هذا التفصيل باعتبار خصوص أجور الأعمال لا باعتبار فضيلة الصحبة

ويشكل عليه أيضا حديث ثعلبة المذكور فإنه قال { : للعامل فيهن أجر خمسين رجلا } ثم بين أن الخمسين من الصحابة ، وهذا صريح في أن التفضيل باعتبار الأعمال ، فاقتضى الأول أفضلية الصحابة في الأعمال إلى حد يفضل نصف مدهم مثل أحد ذهبا ، واقتضى الثاني تفضيل من بعدهم إلى حد يكون أجر العامل أجر خمسين رجلا من الصحابة .

وفي بعض ألفاظ حديث ثعلبة { فإن من ورائكم أياما [ ص: 360 ] الصبر فيهن كالقبض على الجمر ، أجر العامل فيهن أجر خمسين رجلا ، فقال بعض الصحابة : منا يا رسول الله أو منهم ؟ فقال : بل منكم } فتقرر بما ذكرناه عدم صحة ما جمع به الجمهور

وقال النووي في حديث " أمتي كالمطر " أن يشتبه على الذين يرون عيسى ويدركون زمانه وما فيه من الخير : أي الزمانين أفضل . قال : وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم : { خير القرون قرني } ولا يخفى ما في هذا من التعسف الظاهر . والذي أوقعه فيه عدم ذكر فاعل يدري فحمله على هذا وغفل عن التشبيه بالمطر المفيد لوقوع التردد في الخيرية من كل أحد . والذي يستفاد من مجموع الأحاديث أن للصحابة مزية لا يشاركهم فيها من بعدهم وهي صحبته صلى الله عليه وسلم ومشاهدته والجهاد بين يديه وإنفاذ أوامره ونواهيه ، ولمن بعدهم مزية لا يشاركهم الصحابة فيها وهي إيمانهم بالغيب في زمان لا يرون فيه الذات الشريفة التي جمعت من المحاسن ما يقود بزمام كل مشاهد إلى الإيمان إلا من حقت عليه الشقاوة

وأما باعتبار الأعمال فأعمال الصحابة فاضلة مطلقا من غير تقييد بحالة مخصوصة كما يدل عليه { لو أنفق أحدكم مثل أحد } الحديث إلا أن هذه المزية هي للسابقين منهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بهذه المقالة جماعة من الصحابة الذين تأخر إسلامهم كما يشعر بذلك السبب ، وفيه قصة مذكورة في كتب الحديث ، فالذين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم { لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا } هم جماعة من الصحابة الذين تأخرت صحبتهم ، فكان بين منزلة أول الصحابة وآخرهم أن إنفاق مثل أحد ذهبا من متأخريهم لا يبلغ مثل إنفاق نصف مد من متقدميهم .

وأما أعمال من بعد الصحابة فلم يرد ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق ، إنما ورد ذلك مقيدا بأيام الفتنة وغربة الدين حتى كان أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلا من الصحابة فيكون هذا مخصصا لعموم ما ورد في أعمال الصحابة ، فأعمال الصحابة فاضلة وأعمال من بعدهم مفضولة إلا في مثل تلك الحالة ، ومثل حالة من أدرك المسيح إن صح ذلك المرسل ، وبانضمام أفضلية الأعمال إلى مزية الصحبة يكونون خير القرون ويكون قوله : { لا يدرى خير أوله أم آخره } باعتبار أن في المتأخرين من يكون بتلك المثابة من كون أجر خمسين هذا باعتبار أجور الأعمال ، وأما باعتبار غيرها فلكل طائفة مزية كما تقدم ذكره ، لكن مزية الصحابة فاضلة مطلقا باعتبار مجموع القرن لحديث { خير القرون قرني } فإذا اعتبرت كل قرن قرنا ووازنت بين مجموع القرن الأول مثلا ثم الثاني ثم كذلك إلى انقراض العالم ، فالصحابة خير القرون ، ولا ينافي هذا تفضيل الواحد من أهل قرن أو الجماعة على الواحد أو الجماعة من أهل قرن آخر

فإن قلت : ظاهر الحديث المتقدم أن أبا عبيدة قال : { يا رسول الله أحد خير منا ، أسلمنا معك وجاهدنا معك ؟ فقال : قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولا يروني } [ ص: 361 ] يقتضي تفضيل مجموع قرن هؤلاء على مجموع قرن الصحابة . قلت : ليس في هذا الحديث ما يفيد تفضيل المجموع على المجموع وإن سلم ذلك وجب المصير إلى الترجيح لتعذر الجمع ، ولا شك أن حديث " خير القرون قرني " أرجح من هذا الحديث بمسافات لو لم يكن إلا كونه في الصحيح ، وكونه ثابتا من طرق ، وكونه متلقى بالقبول ، فظهر بهذا وجه الفرق بين المزيتين من غير نظر إلى الأعمال ، كما ظهر وجه الجمع باعتبار الأعمال على ما تقدم تقريره فلم يبق ههنا إشكال والله أعلم

قوله : { لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان } سبب ذلك أن الرجل يرغب إلى المرأة لما جبل عليه من الميل إليها لما ركب فيه من شهوة النكاح ، وكذلك المرأة ترغب إلى الرجل لذلك فمع ذلك يجد الشيطان السبيل إلى إثارة شهوة كل واحد منهما إلى الآخر فتقع المعصية

قوله : ( بحبوحة الجنة ) قال في النهاية : بحبوحة الدار وسطها ، يقال بحبح : إذا تمكن وتوسط المنزل والمقام والبحبوحة بمهملتين وموحدتين ، والمراد أن لزوم الجماعة سبب الكون في بحبوحة الجنة لأن يد الله مع الجماعة ، ومن شذ شذ إلى النار كما ثبت في الحديث

قوله : ( من سرته حسنته . . . إلخ ) فيه دليل على أن السرور لأجل الحسنة والحزن لأجل السيئة من خصال الإيمان ; لأن من ليس من أهل الإيمان لا يبالي أحسن أم أساء ، وأما من كان صحيح الإيمان خالص الدين فإنه لا يزال من سيئته في غم لعلمه بأنه مأخوذ بها محاسب عليها ، ولا يزال من حسنته في سرور لأنه يعلم أنها مدخرة له في صحائفه فلا يزال حريصا على ذلك حتى يوفقه الله عز وجل لحسن الخاتمة

التالي السابق


الخدمات العلمية