صفحة جزء
( وصلى الله على محمد النبي الأمي المرسل كافة للناس بشيرا ونذيرا ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ) أردف الحمد بالصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم لكونه الواسطة في وصول الكمالات العلمية والعملية إلينا من الرفيع عز سلطانه وتعالى شأنه ، وذلك ; لأن الله تعالى لما كان في نهاية الكمال ونحن في نهاية النقصان لم يكن لنا استعداد لقبول الفيض الإلهي لتعلقنا بالعلائق البشرية والعوائق البدنية ، وتدنسنا بأدناس اللذات الحسية والشهوات الجسمية ، وكونه تعالى في غاية التجرد ونهاية التقدس .

فاحتجنا في قبول الفيض منه جل وعلا إلى واسطة له وجه تجرد ونوع تعلق ، فبوجه التجرد يستفيض من الحق ، وبوجه التعلق يفيض علينا ، وهذه الواسطة هم الأنبياء ، وأعظمهم رتبة وأرفعهم منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم ، فذكر عقب ذكره - جل جلاله - تشريفا لشأنه مع الامتثال لأمر الله سبحانه .

ولحديث أبي هريرة عند الزهاوي [ ص: 19 ] بلفظ : { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي فهو أقطع } وكذلك التوسل بالصلاة على الآل والأصحاب لكونهم متوسطين بيننا وبين نبينا صلى الله عليه وسلم فإن ملاءمة الآل والأصحاب لجنابه أكثر من ملاءمتنا له .

والصلاة في الأصل : الدعاء وهي من الله الرحمة ، هكذا في كتب اللغة ، وقال القشيري : هي من الله لنبيه تشريف وزيادة تكرمة ، ولسائر عباده رحمة . قال في شرح المنهاج : إن معنى قولنا : اللهم صل على محمد : عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وتضعيف أجره ومثوبته .

وههنا أمر يشكل في الظاهر هو أن الله أمرنا بأن نصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونحن أحلنا الصلاة عليه في قولنا : اللهم صل على محمد وكان حق الامتثال أن نقول : صلينا على النبي وسلمنا ، فما النكتة في ذلك ؟ قال في شرح المنهاج : فيه نكتة شريفة كأننا نقول : يا ربنا أمرتنا بالصلاة عليه وليس في وسعنا أن نصلي صلاة تليق بجنابه ; لأنا لا نقدر قدر ما أنت عالم بقدره صلى الله عليه وسلم ، فأنت تقدر أن تصلي عليه صلاة تليق بجنابه انتهى .

ومحمد علم لذاته الشريفة ، ومعناه الوصفي كثير المحامد ، ولا مانع من ملاحظته مع العلمية كما تقرر في مواطنه . وآثر لفظ النبي لما فيه من الدلالة على الشرف والرفعة على ما قيل : إنه من النبوة ، وهي ما ارتفع من الأرض .

قال في الصحاح : إن جعلت لفظ النبي مأخوذا من ذلك فمعناه أنه شرف على سائر الخلق وأصله غير الهمزة وهو فعيل بمعنى مفعول . والنبي في لسان الشرع : من بعث إليه بشرع فإن أمر بتبليغه فرسول ، وقيل : هو المبعوث إلى الخلق بالوحي لتبليغ ما أوحاه . والرسول قد يكون مرادفا له وقد يختص بمن هو صاحب كتاب . قيل : هو المبعوث لتجديد شرع أو تقريره ، والرسول : هو المبعوث للتجديد فقط . وعلى الأقوال : النبي أعم من الرسول

والأمي : من لا يكتب ، وهو في حقه صلى الله عليه وسلم وصف مادح لما فيه من الدلالة على صحة المعجزة وقوتها باعتبار صدورها ممن هو كذلك ، وذكر المرسل بعد ذكر النبي لبيان أنه مأمور بالتبليغ ، أو صاحب كتاب ، أو مجدد شرع بطريق أدل على هذه الأمور من الطريق الأولى وإن اشتركا في أصل الدلالة على ذلك ، وإيثار هذه الصفة : أعني إرساله إلى الناس كافة لكونه لا يشاركه فيها غيره من الأنبياء . وكافة منصوب على الحال وصاحبها الضمير الذي في المرسل ، والهاء فيه للمبالغة ، وليس بحال من الناس ; لأن الحال لا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح ، وعند أبي علي وابن كيسان وغيرهما من النحويين أنه يجوز تقدم الحال على الصاحب المجرور ، وقيل : إنه منصوب على صيغة المصدرية ، والتقدير المرسل رسالة كافة .

ورد بأن كافة لا تستعمل إلا حالا . والبشير النذير : المبشر والمنذر وإنما عدل بهما إلى صيغة فعيل لقصد المبالغة . والآل أصله أهل بدليل تصغيره على أهيل . ولو كان أصله غيره لسمع تصغيره عليه ، ولا يستعمل [ ص: 20 ] إلا فيما له شرف في الغالب ، واختصاصه بذلك لا يستلزم عدم تصغيره ، إذ يجوز تحقير من له خطر أو تقليله على أن الخطر في نفسه لا ينافي التصغير بالنسبة إلى من له خطر أعظم من ذلك ، وأيضا لا ملازمة بين التصغير وبين التحقير أو التقليل ; لأنه يأتي للتعظيم كقوله :

وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل

وللتلطف كقوله :

يا ما أميلح غزلانا شدن لنا

. وقد اختلف في تفسير الآل على أقوال يأتي ذكرها في باب ما يستدل به على تفسير آله المصلى عليهم من أبواب صفة الصلاة .

والصحب بفتح الصاد وإسكان الحاء المهملتين : اسم جمع لصاحب كركب لراكب ، وقد اختلف في تفسير معنى الصحابي على أقوال : منها أنه من رأى النبي مسلما وإن لم يرو عنه ولا جالسه . ومنهم من اعتبر طول المجالسة . ومنهم من اعتبر الرواية عنه . ومنهم من اعتبر أن يموت على دينه . وبيان حجج هذه الأقوال وراجحها من مرجوحها مبسوط في الأصول وعلم الاصطلاح فلا نطول بذكره .

وذكر السلام بعد الصلاة امتثالا لقوله تعالى: { صلوا عليه وسلموا } وفي معناه أقوال الأول : أنه الأمان أي التسليم من النار . وقيل : هو اسم من أسمائه تعالى ، والمراد : السلام على حفظك ورعايتك متول لهما وكفيل بهما . وقيل : هو المسالمة والانقياد .

التالي السابق


الخدمات العلمية