صفحة جزء
باب افتراضها ومتى كان

392 - ( عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان } متفق عليه ) .


قوله : ( على خمس ) في بعض الروايات خمسة بالهاء وكلاهما صحيح ، فالمراد برواية الهاء خمسة أركان أو أشياء أو نحو ذلك ، وبرواية حذف الهاء خمس خصال أو دعائم أو قواعد أو نحو ذلك . قوله : ( شهادة ) بالجر على البدل ويجوز رفعه خبرا لمبتدأ محذوف وتقديره أحدها أو منها . قوله : ( وإقام الصلاة ) أي المداومة عليها . والحديث يدل على أن كمال الإسلام وتمامه بهذه الخمس ، فهو كخباء أقيم على خمسة أعمدة ، وقطبها الذي يدور عليه الأركان الشهادة وبقية شعب الإيمان كالأوتاد للخباء . فظهر من هذا التمثيل أن الإسلام غير الأركان كما في البيت غير الأعمدة والأعمدة غيره ، وهذا مستقيم على مذهب أهل السنة ; لأن الإسلام عندهم التصديق بالقول والعمل . والحديث أورده عبد الله بن عمر في جواب من قال له ألا تغزو ؟ فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [ ص: 354 ] بني الإسلام " الحديث . فاستدل به على خمس ليس هو منها . قال النووي في شرح مسلم : اعلم أن هذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده وقد جمع أركانه .

393 - ( وعن أنس بن مالك قال : { فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات ليلة أسري به خمسين ، ثم نقصت حتى جعلت خمسا ، ثم نودي يا محمد إنه لا يبدل القول لدي ، وإن لك بهذه الخمس خمسين } رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه ) . الحديث في الصحيحين بلفظ : " هي خمس " وبلفظ : " هن خمس وهن خمسون " والمراد أنها خمس في العدد خمسون في الأجر والاعتداد . والحديث طرف من حديث الإسراء الطويل . وقد استدل به على عدم فرضية ما زاد على الخمس الصلوات كالوتر ، وعلى دخول النسخ في الإنشاءات ، ولو كانت مؤكدة ، خلافا لقوم فيما أكد . وعلى جواز النسخ قبل الفعل ، وإليه ذهبت الأشاعرة .

قال ابن بطال وغيره في بيان وجه الدلالة : ألا ترى أنه - عز وجل - نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلى ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب ، وتعقبه ابن المنير فقال : هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشراح ، وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالأشاعرة أو منعه كالمعتزلة ، لكونهم اتفقوا جميعا على أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ ، وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ فهو مشكل عليهم جميعا ، قال : وهذه نكتة مبتكرة . قال الحافظ في الفتح : قلت إن أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع ، وإن أراد قبل البلاغ إلى الأمة فمسلم ، ولكن قد يقال : ليس هو بالنسبة إليهم نسخا لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه كلف بذلك قطعا ثم نسخ بعد أن بلغه وقبل أن يفعل ، فالمسألة صحيحة التصوير في حقه صلى الله عليه وسلم .

394 - ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر ففرضت أربعا وتركت صلاة السفر على الأول } رواه أحمد والبخاري ) . زاد أحمد من طريق ابن كيسان إلا المغرب : ( فإنها كانت ثلاثا ) . والحديث يدل على وجوب القصر ، وأنه عزيمة لا رخصة ، وقد أخذ بظاهره الحنفية والهادوية ، واحتج مخالفوهم بقوله سبحانه - { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } - ونفي الجناح لا يدل على العزيمة ، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه .

قالوا : ويدل على أنه رخصة قوله صلى الله عليه وسلم : { صدقة تصدق الله بها عليكم } وأجابوا عن حديث الباب بأنه من قول [ ص: 355 ] عائشة غير مرفوع ، وبأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة ، قاله الخطابي وغيره . قال الحافظ : وفي هذا الجواب نظر ، أما أولا : فهو مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع ، وأما ثانيا : فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابي وهو حجة ; لأنه يحتمل أن يكون أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي آخر أدرك ذلك . وأما قول إمام الحرمين : لو كان ثابتا لنقل متواترا ففيه نظر ; لأن التواتر في مثل هذا غير لازم . وقالوا أيضا : يعارض حديث عائشة هذا حديث ابن عباس : { فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين } أخرجه مسلم .

والجواب أنه يمكن الجمع بين حديث عائشة وابن عباس فلا تعارض وذلك بأن يقال : إن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب ، ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة قالت { فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن ، زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان ، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة ، وصلاة المغرب ; لأنها وتر النهار } . انتهى

ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة . ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند : إن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة وهو مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها .

وقيل : كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية ذكره الدولابي ، وأورده السهيلي بلفظ بعد الهجرة بعام أو نحوه . وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوما ، فعلى هذا : المراد بقول عائشة : ( فأقرت صلاة السفر ) أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف . والمصنف ساق الحديث للاستدلال به على فرضية الصلاة لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة ، ولعله يأتي تحقيق ما هو الحق في باب صلاة السفر - إن شاء الله تعالى - .

395 - ( وعن طلحة بن عبيد الله { أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال : يا رسول الله أخبرني ما فرض الله علي من الصلاة ؟ قال : الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا ، قال : أخبرني ما فرض الله علي من الصيام ؟ قال : شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا ، قال : أخبرني ما فرض الله علي من الزكاة ؟ قال : فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام كلها ، فقال : والذي أكرمك لا أطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق ، أو دخل الجنة إن صدق } متفق عليه ) . [ ص: 356 ] الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي ومالك في الموطإ وغير هؤلاء . قوله : ( أن أعرابيا ) في رواية جاء رجل " زاد أبو داود " من أهل نجد " وكذا في مسلم والموطإ . قوله : ( ثائر الرأس ) هو مرفوع على الوصف على رواية " جاء رجل " ويجوز نصبه على الحال ، والمراد أن شعره متفرق من ترك الرفاهية ، ففيه إشارة إلى قرب عهده بالوفادة ، وأوقع اسم الرأس على الشعر إما مبالغة ، أو ; لأن الشعر منه ينبت .

قوله : ( إلا أن تطوع ) بتشديد الطاء والواو وأصله تتطوع بتاءين فأدغمت إحداهما ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما . قوله : ( والذي أكرمك ) وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند البخاري " والله " . قوله ( : أفلح إن صدق ) وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر " أفلح وأبيه إن صدق ، أو دخل الجنة وأبيه إن صدق " ولأبي داود مثله . فإن قيل : ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء ؟ .

أجيب عن ذلك بأنه كان قبل النهي ، أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف ، أو فيه إضمار اسم الرب كأنه قال : ورب أبيه ، أو أنه خاص ويحتاج إلى دليل . وحكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه قال : هو تصحيف وإنما كان والله فقصرت اللامان ، واستنكره القرطبي ، وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ ( وأبيه ) لم تصح ، وكأنه لم يرتض الجواب فعدل إلى رد الخبر وهو صحيح لا مرية فيه . قال الحافظ : وأقوى الأجوبة الأولان . والحديث يدل على فرضية الصلاة وما ذكر معها على العباد .

قال المصنف رحمه الله: وفيه مستدل لمن لم يوجب صلاة الوتر ولا صلاة العيد انتهى .

وقد أوجب قوم الوتر ، وآخرون ركعتي الفجر ، وآخرون صلاة الضحى ، وآخرون صلاة العيد ، وآخرون ركعتي المغرب ، وآخرون صلاة التحية ، ومنهم من لم يوجب شيئا من ذلك وجعل هذا الحديث صارفا لما ورد بعده من الأدلة المشعرة بالوجوب .

وفي الحديث أيضا دليل على عدم وجوب صوم عاشوراء وهو إجماع ، وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة وفيه غير ذلك .

وفي جعل هذا الحديث دليلا على عدم وجوب ما ذكر نظر عندي ; لأن ما وقع في مبادئ التعليم لا يصح التعلق به في صرف ما ورد بعده وإلا لزم قصر واجبات الشريعة بأسرها على الخمس المذكورة ، وإنه خرق للإجماع وإبطال لجمهور الشريعة ، فالحق أنه يؤخذ بالدليل المتأخر إذا ورد موردا صحيحا ويعمل بما يقتضيه من وجوب أو ندب أو نحوهما ، وفي المسألة خلاف ، وهذا أرجح القولين ، والبحث مما ينبغي لطالب الحق أن يمعن النظر فيه ويطيل التدبر ، فإن معرفة الحق فيه من أهم المطالب العلمية لما ينبني عليه من المسائل البالغة إلى حد يقصر عنه العد .

وقد أعان الله وله الحمد على جمع رسالة في خصوص هذا المبحث ، وقد أشرت إلى هذه القاعدة في عدة مباحث في غير هذا الباب وهذا موضع عرض ذكرها فيه . .

التالي السابق


الخدمات العلمية