صفحة جزء
[ ص: 357 ] باب قتل تارك الصلاة

396 - ( عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل } متفق عليه ، ولأحمد مثله من حديث أبي هريرة ) .


قوله : ( أمرت ) قال الخطابي : معلوم أن المراد بقوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " أهل الأوثان دون أهل الكتاب ; لأنهم يقولون لا إله إلا الله ويقاتلون ولا يرفع عنهم السيف ، وهذا التخصيص بأهل الأوثان إنما يحتاج إليه في الحديث الذي اقتصر فيه على ذكر الشهادة ، وجعلت لمجردها موجبة للعصمة .

وأما حديث الباب فلا يحتاج إلى ذلك ; لأن العصمة متوقفة على كمال تلك الأمور ، ولا يمكن وجودها جميعا من غير مسلم . والحديث يدل على أن من أخل بواحدة منها فهو حلال الدم والمال إذا لم يتب ، وسيأتي ذكر الخلاف وبيان ما هو الحق في الباب الذي بعد هذا .

وفي الاستتابة وصفتها ومدتها خلاف معروف في الفقه . قوله : ( إلا بحق الإسلام ) المراد ما وجب به في شرائع الإسلام إراقة الدم كالقصاص وزنا المحصن ونحو ذلك ، أو حل به أخذ جزء من المال كأروش الجنايات وقيم المتلفات وما وجب من النفقات وما أشبه ذلك .

قوله : ( وحسابهم على الله ) المراد فيما يستسر به ويخفيه دون ما يعلنه ويبديه . وفيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر ، وهذا قول أكثر العلماء .

وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل قاله الخطابي . وذكر القاضي عياض معنى هذا وزاد عليه وأوضحه . قال النووي : وقد اختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق وهو الذي ينكر الشرع جملة ، قال : فذكروا فيه خمسة أوجه لأصحابنا ، والأصوب فيها قبولها مطلقا للأحاديث الصحيحة المطلقة ; والثاني : لا تقبل ويتحتم قتله ، لكنه إن صدق في توبته نفعه ذلك في الدار الآخرة فكان من أهل الجنة .

والثالث : إن تاب مرة واحدة قبلت توبته ، فإن تكرر ذلك منه لم تقبل . والرابع : إن أسلم ابتداء من غير طلب قبل منه وإن كان تحت السيف فلا . والخامس : إن كان داعيا إلى الضلال لم يقبل منه وإلا قبل . قال النووي أيضا : ولا بد مع هذا : يعني القيام بالأمور المذكورة في الحديث من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما جاء في الرواية الأخرى التي أشار إليها المصنف وهي من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم بلفظ : { حتى يشهدوا [ ص: 358 ] أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها } .

397 - ( وعن أنس بن مالك قال { لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب ، فقال عمر : يا أبا بكر كيف نقاتل العرب ؟ فقال أبو بكر : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة } رواه النسائي ) . الحديث أخرجه أيضا البيهقي في السنن وإسناده في سنن النسائي هكذا : أخبرنا محمد بن بشار حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا عمران أبو العوام ، حدثنا معمر عن الزهري عن أنس فذكره ، وكلهم من رجال الصحيح إلا عمران أبو العوام فإنه صدوق يهم ، ولكن قد ثبت معناه في الصحيحين لكن بدون أنه قال ذلك أبو بكر في مراجعته لعمر ، بل الذي فيهما لما أن عمر احتج على أبي بكر لما عزم على قتال أهل الردة بقول النبي صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم نفسه وماله } ، فقال له أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه .

قال النووي : وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر رضي الله عنهما دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة : يعني من الأحاديث التي فيها ذكر الصلاة والزكاة ، فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف ولما كان احتج بالحديث ، فإنه بهذه الزيادة حجة عليه ، ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها ولما احتج بالقياس والعموم ا هـ . وإنما ذكرنا هذا الكلام للتعريف بأن المشهور عند أهل الصحيح والشارحين له خلاف ما ذكره النسائي في هذه الرواية ، وسيأتي الكلام على مراجعة أبي بكر وعمر مبسوطا في كتاب الزكاة . .

والحديث يدل على ما دل عليه الذي قبله من أن المخل بواحدة من هذه الخصال حلال الدم ومباح المال .

398 - ( وعن أبي سعيد الخدري قال : { بعث علي عليه السلام وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة ، فقسمها بين أربعة ، فقال رجل : يا رسول الله : اتق الله ، فقال : ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ، ثم ولى الرجل ، فقال خالد بن الوليد [ ص: 359 ] يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال : لا لعله أن يكون يصلي ، فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم } مختصر من حديث متفق عليه ) . .

الحديث اختصره المصنف وترك أطرافا من أوائله ، وتمامه : قال : { ثم نظر إليه وهو مقف فقال : إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لينا رطبا لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود } انتهى .

قوله : ( بذهيبة ) على التصغير ، وفي رواية " بذهبة " بفتح الذال . قوله : ( بين أربعة ) هم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وزيد الخير والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل كذا في صحيح مسلم . قال النووي : قال العلماء : ذكر عامر هنا غلط ظاهر ; لأنه توفي قبل هذا بسنين ، والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة كما هو مجزوم به في باقي الروايات .

قوله : ( فقال خالد بن الوليد ) في رواية عمر بن الخطاب وليس بينهما تعارض بل كل واحد منهما استأذن فيه . قوله : ( لعله أن يكون يصلي ) فيه أن الصلاة موجبة لحقن الدم ولكن مع بقية الأمور المذكورة في الأحاديث الأخرى . قوله : ( لم أومر أن أنقب . . . إلخ ) معناه إني أمرت بالحكم بالظاهر والله متولي السرائر كما قال صلى الله عليه وسلم { فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله } . والحديث استدل به على كفر الخوارج ; لأنهم المرادون بقوله في آخره " قوم يتلون كتاب الله " كما صرح بذلك شراح الحديث وغيرهم . وقد اختلف الناس في ذلك .

قال النووي بعد أن صرح هو والخطابي بأن الحديث وأمثاله يدل على كفر الخوارج ، وقد كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالا من سائر المسائل ، ولقد رأيت أبا المعالي وقد رغب إليه الفقيه عبد الحق في الكلام عليها ، فاعتذر بأن الغلط فيها يصعب موقعه ; لأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم منها عظيم في الدين . وقد اضطرب فيها قول القاضي أبي بكر الباقلاني ، وناهيك به في علم الأصول ، وأشار ابن الباقلاني إلى أنها من المعوصات ; لأن القوم لم يصرحوا بالتكفير ، وإنما قالوا قولا يؤدي إلى ذلك .

وأنا أكشف لك نكتة الخلاف وسبب الإشكال وذلك أن المعتزلي مثلا إذا قال إن الله تعالى عالم ولكن لا علم له ، وحي ولا حياة له وقع الاشتباه في تكفيره ; لأنا علمنا من دين الأمة ضرورة أن من قال إن الله ليس بحي ولا عالم كان كافرا ، وقامت الحجة على استحالة كون العالم لا علم له ، فهل يقول إن المعتزلي إذا نفى العلم نفى أن يكون الله عالما ، أو يقول قد اعترف بأن الله تعالى عالم فلا يكون نفيه للعلم نفيا للعالم هذا موضع الإشكال . قال : هذا كلام الماوردي ومذهب الشافعي وجماهير أصحابه وجماهير العلماء أن الخوارج لا يكفرون . قال الشافعي : أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية ، وهم طائفة منحخ الرافضة يشهدون لموافقيهم في المذهب [ ص: 360 ] بمجرد قولهم فرد شهادتهم لهذا لا لبدعتهم ، وسيأتي الكلام على الخوارج مبسوطا في كتاب الحدود .

وقد استدل المصنف بالحديث على قبول توبة الزنديق فقال : وفيه دليل لمن يقبل توبة الزنديق انتهى .

وقد تقدم الكلام على ذلك ، وما ذكره متوقف على أن مجرد قوله لرسول الله : اتق الله زندقة ، وهو خلاف ما عرف به العلماء الزنديق . وقد ثبت في رواية أخرى في الصحيح أنه قال : { والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله } ، والاستدلال بمثل هذا على ما زعمه المصنف أظهر . قال القاضي عياض : حكم الشرع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر وقتل ، ولم يذكر في هذا الحديث أن هذا الرجل قتل .

قال المازري : يحتمل أن يكون لم يفهم منه الطعن في النبوة وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة ، ويحتمل أن يكون استدلال المصنف ناظرا إلى قوله في الحديث " لعله يصلي " وإلى قوله : { لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس } فإن ذلك يدل على قبول ظاهر التوبة وعصمة من يصلي ، فإذا كان الزنديق قد أظهر التوبة وفعل أفعال الإسلام كان معصوم الدم .

399 - ( وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس يساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين ، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { أليس يشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال الأنصاري : بلي يا رسول الله ولا شهادة له ، قال : أليس يشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال بلي ولا شهادة له ، قال : أليس يصلي ؟ قال بلى ولا صلاة له قال : أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم } رواه الشافعي وأحمد في مسنديهما ) . الحديث أخرجه أيضا مالك في الموطإ ، وفيه دلالة على أن الواجب المعاملة للناس بما يعرف من ظواهر أحوالهم من دون تفتيش وتنقيش ، فإن ذلك مما لم يتعبدنا الله به ، ولذلك قال : { إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس } وقال لأسامة لما قال له : { إنما قال ما قال يا رسول الله تقية يعني الشهادة : هل شققت عن قلبه } ؟ واعتباره صلى الله عليه وسلم لظواهر الأحوال كان ديدنا له وهجيرا في جميع أموره ، منها { قوله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس لما اعتذر له يوم بدر بأنه مكره ، فقال له : كان ظاهرك علينا } وكذلك حديث : { إنما أقضي بما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه إنما أقطع له قطعة من نار } وكذلك حديث { إنما نحكم بالظاهر } وهو وإن لم يثبت من وجه معتبر فله شواهد متفق [ ص: 361 ] على صحتها ، ومن أعظم اعتبارات الظاهر ما كان منه صلى الله عليه وسلم مع المنافقين من التعاطي والمعاملة بما يقتضيه ظاهر الحال . .

التالي السابق


الخدمات العلمية