صفحة جزء
باب أول وقت العصر وآخره في الاختيار والضرورة قد سبق في حديث ابن عباس وجابر في باب وقت الظهر .

425 - ( وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر ، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس } رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود ، وفي رواية لمسلم { ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول وفيه ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول } ) .


قوله : ( ثور الشفق ) هو بالثاء المثلثة أي ثورانه وانتشاره ومعظمه .

وفي القاموس أنه حمرة الشفق الثائر فيه . قوله : ( قرن الشمس ) هو ناحيتها أو أعلاها أو أول شعاعها ، قاله في القاموس . قوله : ( ويسقط قرنها الأول ) المراد به الناحية ، كما قاله النووي . والحديث فيه ذكر أوقات الصلوات الخمس ، وقد تقدم الكلام في الظهر ، وسيأتي الكلام على وقت المغرب والعشاء والفجر كل في بابه . وأما وقت العصر فالحديث يدل على امتداد وقته إلى اصفرار الشمس ، كما في الرواية الأولى من حديث الباب ، وإلى سقوط قرنها أي غروبه ، كما في الرواية الثانية منه . وحديث : { من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدرك العصر } يدل على أن إدراك بعضها في الوقت مجزئ ، وإلى هذا ذهب الجمهور ، وقال أبو حنيفة : آخره الاصفرار ، وقال الإصطخري : آخره المثلان ، وبعدها قضاء

والأحاديث ترد عليهم ، ولكنه استدل الإصطخري بحديث جبريل السابق ، وفيه : { أنه صلى العصر اليوم الأول عند مصير ظل الشيء مثله ، واليوم الثاني [ ص: 379 ] عند مصير ظل الشيء مثليه } وقال بعد ذلك : { الوقت ما بين هذين الوقتين } وقد أجيب عن ذلك بحمل حديث جبريل على بيان وقت الاختيار ، لا لاستيعاب وقت الاضطرار والجواز ، وهذا الحمل لا بد منه للجمع بين الأحاديث ، وهو أولى من قول من قال : إن هذه الأحاديث ناسخة لحديث جبريل ; لأن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع ، وكذلك لا يصار إلى ترجيح . ويؤيد هذا الجمع حديث : " تلك صلاة المنافق " . وسيأتي بعد هذا الحديث .

فمن كان معذورا كان الوقت في حقه ممتدا إلى الغروب ، ومن كان غير معذور كان الوقت له إلى المثلين ، وما دامت الشمس بيضاء نقية ، فإن أخرها إلى الاصفرار وما بعده كانت صلاته صلاة المنافق المذكورة في الحديث ، وأما أول وقت العصر ، فمذهب العترة والجمهور أنه مصير ظل الشيء مثله كما تقدم في حديث جبريل ، وقال الشافعي : الزيادة على المثل . وقال أبو حنيفة : المثلان ، وهو فاسد ترده الأحاديث الصحيحة . قال النووي في شرح مسلم : قال أصحابنا : للعصر خمسة أوقات : وقت فضيلة ، واختيار ، وجواز بلا كراهة ، وجواز مع كراهة ، ووقت عذر ; فأما وقت الفضيلة فأول وقتها . ووقت الاختيار يمتد إلى أن يصير ظل الشيء مثليه ، ووقت الجواز إلى الاصفرار ، ووقت الجواز مع الكراهة حال الاصفرار إلى الغروب .

ووقت العذر وهو وقت الظهر في حق من يجمع بين الظهر والعصر لسفر أو مطر ، ويكون العصر في هذه الأوقات الخمسة أداء ، فإذا فاتت كلها بغروب الشمس ، صارت قضاء انتهى . قال المصنف رحمه الله: وفيه دليل على أن للمغرب وقتين ، وأن الشفق : الحمرة ، وأن وقت الظهر يعاقبه وقت العصر ، وأن تأخير العشاء إلى نصف الليل جائز انتهى - قوله وفيه دليل على أن للمغرب وقتين ، استدل على ذلك بقوله في الحديث : " ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق " . قال النووي في شرح مسلم : وذهب المحققون من أصحابنا إلى ترجيح القول بجواز تأخيرها ما لم يغب الشفق ، وأنه يجوز ابتداؤها في كل وقت من ذلك ، ولا يأثم بتأخيرها عن أول الوقت ، وهذا هو الصحيح أو الصواب الذي لا يجوز غيره .

والجواب عن حديث جبريل حين صلى المغرب في اليومين في وقت واحد من ثلاثة أوجه . أحدهما : أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ، ولم يستوعب وقت الجواز ، وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر . والثاني : أنه متقدم في أول الأمر بمكة ، وهذه الأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق ، متأخرة في آخر الأمر بالمدينة ، فوجب اعتمادها . والثالث : أن هذه الأحاديث أصح إسنادا من حديث بيان جبريل ، فوجب تقديمها انتهى . وقوله : وإن الشفق : الحمرة . قد أخرج ابن عساكر في غرائب مالك والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : { الشفق : الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة } . ولكنه [ ص: 380 ] صحح البيهقي وقفه ، وقد ذكر نحوه الحاكم ، وسيذكره المصنف في باب : وقت صلاة العشاء .

وقوله : وإن تأخير العشاء إلى نصف الليل . . . إلخ ، سيأتي تحقيق ذلك في باب : وقت صلاة العشاء .

426 - ( وعن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله إلا قليلا } . رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه ) . الحديث رواه أبو داود بتكرير قوله : " تلك صلاة المنافق " . قوله : ( بين قرني الشيطان ) اختلفوا فيه ، فقيل : هو على حقيقته وظاهر لفظه ، والمراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها ، وكذلك عند طلوعها ; لأن الكفار يسجدون لها حينئذ ، فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له ، وتخيل لنفسه ولأعوانه أنهم إنما يسجدون له وقيل : هو على المجاز ، والمراد بقرنه وقرنيه : علوه وارتفاعه وسلطانه وغلبة أعوانه ، وسجود مطيعيه من الكفار للشمس ، قاله النووي . وقال الخطابي : هو تمثيل ، ومعناه أن تأخيرها بتزيين الشيطان ومدافعته لهم عن تعجيلها ، كمدافعة ذوات القرون لما تدفعه

قوله : ( فنقرها ) المراد بالنقر سرعة الحركات كنقر الطائر ، قال الشاعر :

لا أذوق النوم إلا غرارا مثل حسو الطير ماء الثماد

وفي الحديث دليل على كراهة تأخير الصلاة إلى وقت الاصفرار ، والتصريح بذم من أخر صلاة العصر بلا عذر ، والحكم على صلاته بأنها صلاة المنافق ، ولا أردع لذوي الإيمان وأفزع لقلوب أهل العرفان من هذا . وقوله : ( يجلس يرقب الشمس ) فيه إشارة إلى أن الذم متوجه إلى من لا عذر له ، وقوله : ( فنقرها أربعا ) فيه تصريح بذم من صلى مسرعا بحيث لا يكمل الخشوع والطمأنينة والأذكار ، وقد نقل بعضهم الاتفاق على عدم جواز التأخير إلى هذا الوقت لمن لا عذر له ، وهذا من أوضح الأدلة القاضية بصحة الجمع بين الأحاديث التي ذكرناها في الحديث الذي قبل هذا

427 - ( وعن أبي موسى عن { النبي صلى الله عليه وسلم قال وأتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا ، وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر ، والناس لا يكاد يعرف [ ص: 381 ] بعضهم بعضا ، ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس ، والقائل يقول : انتصف النهار أو لم ؟ ، وكان أعلم منهم ، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة ، ثم أمره فأقام المغرب حين وقبت الشمس ، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ، ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول : طلعت الشمس أو كادت ، وأخر الظهر حتى كان قريبا من وقت العصر بالأمس ، ثم أخر العصر فانصرف منها ، والقائل يقول : احمرت الشمس ، ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ، وفي لفظ : فصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق ، وأخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول ، ثم أصبح فدعا السائل فقال : الوقت فيما بين هذين } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وروى الجماعة إلا البخاري نحوه من حديث بريدة الأسلمي ) . حديث بريدة صححه الترمذي ولفظه : { أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال : صل معنا هذين الوقتين ، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن ، ثم أمره فأقام الظهر ، تم أمره فأقام العصر ، والشمس مرتفعة بيضاء نقية ، ثم أمره فأقام المغرب حين غربت الشمس ، تم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ، تم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر ، فلما أن كان اليوم الثاني أمره ، فأبرد بالظهر وأنعم أن يبرد بها ، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان ، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق ، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل ، وصلى الفجر فأسفر بها ، ثم قال : أين السائل عن وقت الصلاة ؟ فقال الرجل : أنا يا رسول الله . قال : وقت صلاتكم بين ما رأيتم } .

قوله : ( وأتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا ) أي لم يرد جوابا ببيان الأوقات باللفظ ، بل قال له : صل معنا لتعرف ذلك ، ويحصل لك البيان بالفعل ، كما وقع في حديث بريدة أنه قال له : " صل معنا هذين اليومين " ، وليس المراد أنه لم يجب عليه بالقول ولا بالفعل ، كما هو الظاهر من حديث أبي موسى ; لأن المعلوم من أحواله أنه كان يجيب من سأله عما يحتاج إليه ، فلا بد من تأويل ما في حديث أبي موسى من قوله : " فلم يرد عليه شيئا " . بما ذكرنا . وقد ذكر معنى ذلك النووي .

قوله : ( انشق الفجر ) أي طلع . وقوله : ( والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا ) بيان لذلك الوقت . قوله : ( وقبت الشمس ) هو بقاف فباء موحدة فتاء مثناة ، يقال : وقبت الشمس وقبا ووقوبا : غربت ، ذكر معناه في القاموس .

وفي الحديث بيان مواقيت الصلاة ، وفيه تأخير وقت العصر إلى قرب احمرار الشمس ، وفيه " أنه أخر العشاء حتى كان ثلث الليل " .

وفي حديث عبد الله بن عمرو السابق أنه أخرها إلى نصف الليل ، وهو بيان لآخر وقت [ ص: 382 ] الاختيار ، وسيأتي تحقيق ذلك . قال المصنف رحمه الله تعالى: وهذا الحديث يعني حديث الباب في إثبات الوقتين للمغرب ، وجواز تأخير العصر ما لم تصفر الشمس أولى من حديث جبريل عليه السلام ; لأنه كان بمكة في أول الأمر ، وهذا متأخر ومتضمن زيادة فكان أولى ، وفيه من العلم جواز تأخير البيان عن وقت السؤال انتهى . وهكذا صرح البيهقي والدارقطني وغيرهما أن صلاة جبريل كانت بمكة ، وقصة المسألة بالمدينة ، وصرحوا بأن الوقت الآخر لصلاة المغرب رخصة . وقد ذكرنا طرفا من ذلك في شرح حديث جبريل ، وفيه زيادة أن ذلك في صبيحة ليلة الإسراء

. وقوله : ( الوقت فيما بين هذين الوقتين ) ينفي بمفهومه وقتيه ما عداه ، ولكن حديث : { من أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس ، ومن الفجر ركعة قبل طلوع الشمس } وغيره ، منطوقات ، وهي أرجح من المفهوم ، ولا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع ، وقد أمكن بما عرفت في شرح حديث عبد الله بن عمرو ، ولو صرت إلى الترجيح لكان حديث أنس المذكور قبل هذا مانعا من التمسك بتلك المنطوقات ، والمصير إلى الجمع لا بد منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية