صفحة جزء
باب وقت صلاة العشاء وفضل تأخيرها مع مراعاة حال الجماعة وبقاء وقتها المختار إلى نصف الليل

452 - ( عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة } . رواه الدارقطني ) .


الحديث قال الدارقطني في الغرائب : هو غريب وكل رواته ثقات ، وقد رواه أيضا ابن عساكر والبيهقي وصحح وقفه ، وقد ذكره الحاكم في المدخل وجعله مثالا لما رفعه المخرجون من الموقوفات . وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن عمر مرفوعا { ووقت صلاة المغرب إلى أن يذهب حمرة الشفق } قال ابن خزيمة : إن صحت هذه اللفظة أغنت عن جميع الروايات ، لكن تفرد بها محمد بن يزيد . قال الحافظ : محمد بن يزيد صدوق . قال البيهقي : روي هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة ولا يصح فيه شيء . قال المصنف رحمه اللهوهو يدل على وجوب الصلاة بأول الوقت انتهى . وفي ذلك خلاف في الأصول مشهور .

والحديث [ ص: 14 ] يدل على صحة قول من قال : " إن الشفق الحمرة " وهم ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وعبادة من الصحابة والقاسم والهادي والمؤيد بالله وأبو طالب وزيد بن علي والناصر من أهل البيت والشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبو يوسف ومحمد من الفقهاء . والخليل والفراء من أئمة اللغة .

قال في القاموس : الشفق : الحمرة ولم يذكر الأبيض ، وقال أبو حنيفة والأوزاعي والمزني وبه قال الباقر : بل هو الأبيض واحتجوا بقوله تعالى : { إلى غسق الليل } ولا غسق قبل ذهاب البياض ، ورد بأن ذلك ليس بمانع كالنجوم .

وقال أحمد بن حنبل : الأحمر في الصحاري والأبيض في البنيان وذلك قول لا دليل عليه ، ومن حجج الأولين ما روي عنه صلى الله عليه وسلم { أنه صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر } أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي . قال ابن العربي : وهو صحيح وصلى قبل غيبوبة الشفق . قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول ، وهو الذي حد عليه الصلاة والسلام خروج أكثر الوقت به فصح يقينا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين ، فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض ، فتبين بذلك يقينا أن الوقت دخل بالشفق الذي هو الحمرة انتهى .

وابتداء وقت العشاء مغيب الشفق إجماعا لما تقدم في حديث جبريل وفي حديث التعليم وهذا الحديث وغير ذلك ، وأما آخره فسيأتي الخلاف فيه .

453 - ( وعن عائشة قالت : { أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بالعتمة فنادى عمر : نام النساء والصبيان فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما ينتظرها غيركم ولم تصل يومئذ إلابالمدينة ثم قال : صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل } . رواه النسائي ) . الحديث رجال إسناده في سنن النسائي رجال الصحيح إلا شيخ النسائي عمرو بن عثمان وهو صدوق . والحديث متفق عليه من حديثها بنحو هذا اللفظ .

وفي الباب عن زيد بن خالد أشار إليه الترمذي . وعن ابن عمر عند مسلم . وعن معاذ عند أبي داود . وعن أبي بكرة رواه الخلال من حديث عبد الله بن أحمد عن أبيه . وعن علي عليه السلام عند البزار . وعن أبي سعيد وعائشة وأنس وأبي هريرة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وسيأتي .

قوله : ( أعتم ) أي دخل في العتمة ومعناها أخرها . والعتمة لغة : حلب بعد هوي من الليل بعدا من الصعاليك . والمراد بها هنا صلاة العشاء وإنما سميت بذلك لوقوعها في ذلك الوقت .

وفي القاموس والعتمة محركة : ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق أو [ ص: 15 ] وقت صلاة العشاء الآخرة ا هـ . وهذا الحديث يدل على استحباب تأخير صلاة العشاء عن أول وقتها وقد اختلف العلماء هل الأفضل تقديمها أم تأخيرها ، وهما مذهبان مشهوران للسلف وقولان لمالك والشافعي

فذهب فريق إلى تفضيل التأخير محتجا بهذه الأحاديث المذكورة في هذا الباب ، وذهب فريق آخر إلى تفضيل التقديم محتجا بأن العادة الغالبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي التقديم ، وإنما أخرها في أوقات يسيرة لبيان الجواز والشغل والعذر ، ولو كان تأخيرها أفضل لواظب عليه وإن كان فيه مشقة . ورد بأن هذا إنما يتم لو لم يكن منه صلى الله عليه وسلم إلا مجرد الفعل لها في ذلك الوقت ، وهو ممنوع لورود الأقوال كما في حديث ابن عباس وأبي هريرة وعائشة وغير ذلك ، وفيها تنبيه على أفضلية التأخير وعلى أن ترك المواظبة عليه لما فيه من المشقة كما صرحت بذلك الأحاديث ، وأفعاله صلى الله عليه وسلم لا تعارض هذه الأقوال . وأما ما ورد من أفضلية أول الوقت على العموم فأحاديث هذا الباب خاصة ، فيجب بناؤه عليها ، وهذا لا بد منه . قوله : ( ولم تصل يومئذ إلا بالمدينة ) أي لم تصل بالهيئة المخصوصة وهي الجماعة إلا بالمدينة ذكر معناه في الفتح .

قوله : ( فيما بين أن يغيب الشفق ) . . . إلخ قد تقدم أن تحديد أول وقت العشاء بغيبوبة الشفق أمر مجمع عليه ، وإنما وقع الخلاف هل هو الأحمر أو الأبيض وقد سلف ما هو الحق .

454 - ( وعن جابر بن سمرة قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء الآخرة } رواه أحمد ومسلم والنسائي )

455 - ( وعن عائشة قالت : { كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول } . أخرجه البخاري ) .

456 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه } . رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ) .

الحديث الأول يدل على استحباب مطلق التأخير للعشاء وجواز وصفها بالآخرة وأنه لا كراهة في ذلك وقد حكي عن الأصمعي الكراهة . والحديث الثاني يدل استحباب تأخيرها أيضا وامتداد وقتها إلى ثلث الليل . والحديث الثالث فيه التصريح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقة ، [ ص: 16 ] وقد تقدم الكلام في ذلك ، وفيه بيان امتداد الوقت إلى ثلث الليل أو نصفه ، وقد اختلف أهل العلم في ذلك . فذهب عمر بن الخطاب والقاسم والهادي والشافعي وعمر بن عبد العزيز إلى أن آخر وقت العشاء ثلث الليل واحتجوا بحديث جبريل وحديث أبي موسى في التعليم وقد تقدما ، وفي قول للشافعي أن آخر وقتها نصف الليل واحتج بما تقدم في حديث عبد الله بن عمر ، وفي باب أول وقت العصر وفيه : ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ، وبحديث أبي هريرة المذكور هنا وبحديث عائشة وأنس وأبي سعيد وستأتي وغير ذلك

وهذه الأحاديث المصير إليها متعين لوجوه الأول : لاشتمالها على الزيادة وهي مقبولة . الثاني : اشتمالها على الأقوال والأفعال وتلك أفعال فقط وهي لا تتعارض ولا تعارض الأقوال ، والثالث : كثرة طرقها .

والرابع : كونها في الصحيحين ، فالحق أن آخر وقت اختيار العشاء نصف الليل ، وما أجاب به صاحب البحر من أن النصف مجمل فصله خبر جبريل فليس على ما ينبغي ، وأما وقت الجواز والاضطرار فهو ممتد إلى الفجر لحديث أبي قتادة عند مسلم وفيه { ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى } فإنه ظاهر في امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الصلاة الأخرى إلا صلاة الفجر فإنها مخصوصة من هذا العموم بالإجماع . وأما حديث عائشة الآتي بلفظ : " حتى ذهب عامة الليل " فهو وإن كان فيه إشعار بامتداد وقت اختيار العشاء إلى بعد نصف الليل ولكنه مؤول لما سيأتي .

457 - ( وعن جابر قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والعصر ، والشمس نقية ، والمغرب إذا وجبت الشمس ، والعشاء أحيانا يؤخرها وأحيانا يعجل إذا رآهم اجتمعوا عجل ، وإذا رآهم أبطئوا أخر ، والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس } . متفق عليه ) .

قوله : ( بالهاجرة ) هي شدة الحر نصف النهار عقب الزوال ، سميت بذلك من الهجر وهو الترك ; لأن الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر ويقيلون وقد تقدم تفسيرها بنحو من هذا . قوله : ( والشمس نقية ) أي صافية لم تدخلها صفرة قوله : ( إذا وجبت ) أي غابت والوجوب : السقوط كما سبق قوله : ( إذا رآهم اجتمعوا ) فيه مشروعية ملاحظة أحوال المؤتمين والمبادرة بالصلاة مع اجتماع المصلين ; لأن انتظارهم بعد الاجتماع ربما كان سببا لتأذي بعضهم ، وأما الانتظار قبل الاجتماع فلا بأس به لهذا الحديث ولأنه [ ص: 17 ] من باب المعاونة على البر والتقوى

قوله : ( بغلس ) الغلس محركة : ظلمة آخر الليل قاله في القاموس . والحديث يدل على استحباب تأخير صلاة العشاء لكن مقيدا بعدم اجتماع المصلين .

458 - ( وعن عائشة قالت : { أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل حتى نام أهل المسجد ، ثم خرج فصلى ، فقال : إنه لوقتها ، لولا أن أشق على أمتي } رواه مسلم والنسائي ) . قوله : ( أعتم ) قد تقدم الكلام عليه قوله : ( حتى ذهب عامة الليل ) قال النووي : التأخير المذكور في الأحاديث كلها تأخير لم يخرج به عن وقت الاختيار وهو نصف الليل أو ثلث الليل على الخلاف المشهور ، والمراد بعامة الليل كثير منه ، وليس المراد أكثره ، ولا بد من هذا التأويل لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنه لوقتها " ولا يجوز أن المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل ; لأنه لم يقل أحد من العلماء : إن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل ا هـ . قوله : ( لولا أن أشق على أمتي ) فيه تصريح بما قدمنا من أن ترك التأخير إنما هو للمشقة والحديث يدل على مشروعية تأخير صلاة العشاء إلى آخر وقت اختيارها وقد تقدم الكلام على ذلك .

459 - ( وعن أنس قال : { أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ، ثم صلى ثم قال : قد صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها } ، قال أنس : كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ . متفق عليه ) . قوله : ( صلى الناس ) أي المعهودون ممن صلى من المسلمين إذ ذاك . قوله : ( وبيص خاتمه ) هو بالباء الموحدة والصاد المهملة : البريق . والخاتم بكسر التاء وفتحها ويقال أيضا خاتام وخيتام أربع لغات قاله النووي . والحديث يدل على مشروعية تأخير صلاة العشاء والتعليل بقوله : أما إنكم . . . إلخ يشعر بأن التأخير لذلك ، قال الخطابي وغيره : إنما استحب تأخيرها لتطول مدة الانتظار للصلاة ، ومنتظر الصلاة في صلاة .

460 - ( وعن أبي سعيد قال : { انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة لصلاة العشاء حتى ذهب نحو من شطر الليل قال : فجاء فصلى بنا ، ثم قال : خذوا مقاعدكم فإن الناس [ ص: 18 ] قد أخذوا مضاجعهم ، وإنكم لم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها ، ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم ، وحاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل } . رواه أحمد وأبو داود ) . الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه من حديثه والنسائي وابن خزيمة وغيرهم وإسناده صحيح .

قوله : ( ليلة ) فيه إشعار بأنه لم يكن يواظب على ذلك قوله : ( شطر الليل ) الشطر : نصف الشيء وجزؤه ، ومنه حديث الإسراء " فوضع شطرها " أي بعضها قاله في القاموس . قوله : ( ولولا ضعف الضعيف ) هذا تصريح بأفضلية التأخير لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة . والحديث من حجج من قال بأن التأخير أفضل وقد تقدم الخلاف في ذلك . قال المصنف رحمه اللهقلت : قد ثبت تأخيرها إلى شطر الليل عنه عليه الصلاة والسلام قولا وفعلا وهو يثبت زيادة على أخبار ثلث الليل والأخذ بالزيادة أولى ا هـ . وهذا صحيح وقد أسلفنا ذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية