صفحة جزء
باب وجوبه وفضيلته

485 - ( عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ما من ثلاثة لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان } . رواه أحمد ) .


الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال : صحيح الإسناد ولكن لفظ أبي داود : { ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية } .

والحديث استدل به على وجوب الأذان والإقامة لأن الترك الذي هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنبه . وإلى وجوبهما ذهب أكثر العترة وعطاء وأحمد بن حنبل ومالك والإصطخري كذا في البحر ومجاهد [ ص: 39 ] والأوزاعي وداود كذا في شرح الترمذي ، وقد حكى الماوردي عنهم تفصيلا في ذلك فحكى عن مجاهد أن الأذان والإقامة واجبان معا لا ينوب أحدهما عن الآخر فإن تركهما أو أحدهما فسدت صلاته

وقال الأوزاعي : يعيد إن كان وقت الصلاة باقيا ، وإلا لم يعد ، وقال عطاء : الإقامة واجبة دون الأذان فإن تركها لعذر أجزأه ولغير عذر قضى .

وفي البحر أن القائل بوجوب الإقامة دون الأذان الأوزاعي وروي عن أبي طالب أن الأذان واجب دون الإقامة .

وعند الشافعي وأبي حنيفة أنهما سنة . واختلف أصحاب الشافعي على ثلاثة أقوال ، الأول : أنهما سنة .

الثاني : فرض كفاية .

الثالث : سنة في غير الجمعة وفرض كفاية فيها وروى ابن عبد البر عن مالك وأصحابه أنهما سنة مؤكدة واجبة على الكفاية . وقال آخرون : الأذان فرض على الكفاية

ومن أدلة الموجبين للأذان قوله في حديث مالك بن الحويرث الآتي . { فليؤذن لكم أحدكم } .

وفي لفظ للبخاري : { فأذنا ثم أقيما } . ومنها حديث أنس المتفق عليه بلفظ : { أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة } والآمر له النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي . ومنها ما في حديث عبد الله بن زيد الآتي من قوله : { إنها لرؤيا حق إن شاء الله ثم أمر بالتأذين } . وما سيأتي من قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص : { اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا } .

ومنها حديث أنس عند البخاري وغيره قال : { إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أغزى بنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا كف عنهم وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم } ومنها طول الملازمة من أول الهجرة إلى الموت لم يثبت أنه ترك ذلك في سفر ولا حضر إلا يوم المزدلفة ، فقد صحح كثير من الأئمة أنه لم يؤذن فيها وإنما أقام

على أنه قد أخرج البخاري من حديث ابن مسعود { أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في جمع بأذانين وإقامتين } وبهذا الترك على ما فيه من الخلاف احتج من قال بعدم الوجوب ، وخص بعض القائلين بالوجوب الرجال بوجوبهما ولم يوجبهما على النساء استدلالا بحديث : { ليس على النساء أذان ولا إقامة } عند البيهقي من حديث ابن عمر بإسناد صحيح إلا أنه قال ابن الجوزي : لا يعرف مرفوعا . وقد رواه البيهقي وابن عدي من حديث أسماء مرفوعا ، وفي إسناده الحكم بن عبد الله الأيلي وفيه ضعف جدا . وبحديث { النساء عي وعورات فاستروا عيهن بالسكوت وعوراتهن بالبيوت } .

486 - ( وعن مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم } . متفق عليه ) .

قوله : ( أحدكم ) يدل على أنه لا يعتبر السن والفضل في الأذان كما يعتبر في إمامة [ ص: 40 ] الصلاة . وقد استدل بهذا من قال : بأفضلية الإمامة على الأذان لأن كون الأشرف أحق بها مشعر بمزيد شرف لها .

وفي لفظ للبخاري . { فإذا أنتما خرجتما فأذنا } . ولا تعارض بينه وبين ما في حديث الباب لأن المراد بقوله : " أذنا " أي من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن وذلك لاستوائهما في الفضل . والحديث استدل به من قال : بوجوب الأذان لما فيه من صيغة الأمر وقد تقدم الخلاف في ذلك .

487 - ( وعن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة } رواه أحمد ومسلم وابن ماجه ) . وفي الباب عن أبي هريرة وابن الزبير بألفاظ مختلفة

قوله : ( أطول الناس أعناقا ) هو بفتح الهمزة جمع عنق . واختلف السلف والخلف في معناه فقيل : معناه أكثر الناس تشوفا إلى رحمة الله لأن المتشوف يطيل عنقه لما يتطلع إليه فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب ، وقال النضر بن شميل : إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق . وقيل : معناه أنهم سادة ورؤساء ، والعرب تصف السادة بطول العنق . وقيل : معناه أكثر أتباعا ، وقال ابن الأعرابي : أكثر الناس أعمالا ، قال القاضي عياض وغيره : وروى بعضهم إعناقا بكسر الهمزة أي إسراعا إلى الجنة وهو من سير العنق ، قال ابن أبي داود : سمعت أبي يقول : معناه أن الناس يعطشون يوم القيامة فإذا عطش الإنسان انطوت عنقه ، والمؤذنون لا يعطشون فأعناقهم قائمة

وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة : { يعرفون بطول أعناقهم يوم القيامة . } زاد السراج " لقولهم : لا إله إلا الله " وظاهره الطول الحقيقي فلا يجوز المصير إلى التفسير بغيره إلا لملجئ . والحديث يدل على فضيلة الأذان وأن صاحبه يوم القيامة يمتاز عن غيره ولكن إذا كان فاعله غير متخذ أجرا عليه ، وإلا كان فعله لذلك من طلب الدنيا والسعي للمعاش ، وليس من أعمال الآخرة . وقد استدل بهذا الحديث من قال : إن الأذان أفضل من الإمامة ، وهو نص الشافعي في الأم وقول أكثر أصحابه .

وذهب بعض أصحابه إلى أن الإمامة أفضل ، وهو نص الشافعي أيضا قاله النووي ، وبعضهم ذهب إلى أنهما سواء ، وبعضهم إلى أنه إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة وجمع خصالها فهي أفضل ، وإلا فالأذان قاله أبو علي وأبو القاسم بن كج والمسعودي والقاضي حسين من أصحاب الشافعي

واختلف في الجمع بين الأذان والإمامة فقال جماعة من أصحاب الشافعي : إنه يستحب أن لا يفعله ، وقال بعضهم : يكره ، وقال محققوهم وأكثرهم : لا بأس به بل يستحب . قال النووي [ ص: 41 ] وهذا أصح ، وفي البيهقي مرفوعا من حديث جابر النهي عن ذلك ، قال الحافظ : لكن سنده ضعيف .

488 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين } . رواه أحمد ورواه أبو داود والترمذي ) . الحديث رواه الشافعي من طريق إبراهيم بن أبي يحيى وابن حبان وابن خزيمة كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة . وأخرجه من ذكر المصنف عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة .

وروي أيضا عن أبي صالح عن عائشة قال أبو زرعة : حديث أبي هريرة أصح من حديث عائشة . وقال محمد عكسه ، وذكر علي بن المديني أنه لم يثبت واحد منهما .

وقال أيضا : لم يسمع سهيل هذا الحديث من أبيه إنما سمعه من الأعمش ولم يسمعه الأعمش من أبي صالح بيقين لأنه يقول فيه نبئت عن أبي صالح ، وكذا قال البيهقي في المعرفة وقال الدارقطني في العلل : رواه سليمان وروح بن القاسم ومحمد بن جعفر وغيرهم عن سهيل عن الأعمش ، قال : وقال أبو بدر عن الأعمش : حديث عن أبي صالح ، وقال ابن فضيل : عنه عن رجل عن أبي صالح ، وقال الثوري : لم يسمع الأعمش هذا الحديث من أبي صالح ، وصحح حديث أبي هريرة وعائشة جميعا ابن حبان وقال : قد سمع أبو صالح هذين الخبرين من عائشة وأبي هريرة جميعا ، وقال ابن عبد الهادي : أخرج مسلم هذا الإسناد يعني سهيلا عن أبيه نحوا من أربعة عشر حديثا .

وفي الباب عن ابن عمر أخرجه أبو العباس السراج وصححه الضياء في المختارة .

وعن أبي أمامة عند أحمد . وعن جابر عند ابن الجوزي في العلل ورواه البزار عن أبي هريرة وزاد فيه بذلك الإسناد ، { قالوا : يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس في الأذان بعدك ، فقال : إنه يكون بعدكم قوم سفلتهم مؤذنهم } قال الدارقطني : هذه الزيادة ليست محفوظة وأشار ابن القطان إلى أن البزار وهو المتفرد بها قال الحافظ : وليس كذلك فقد جزم ابن عدي بأنها من أفراد أبي حمزة وكذا قال الخليلي وابن عبد البر وأخرجه البيهقي من غير طريق البزار فبرئ من عهدتها .

وأخرجها ابن عدي في ترجمة عيسى بن عبد الله عن يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش ، واتهم بها عيسى وقال : إنما تعرف هذه الزيادة بأبي حمزة قال ابن القطان : أبو حمزة ثقة ولا عيب للإسناد إلا ما ذكر من الانقطاع ، ويجاب عنه بأن الواسطة قد عرفت وهو الأعمش كما تقدم ، فلا يضر هذا الانقطاع ولا تعد علة ، وأما الانقطاع الثاني بين الأعمش وأبي صالح الذي تقدم فيه قوله عن [ ص: 42 ] رجل فيجاب عنه بأن ابن نمير قد قال عن الأعمش عن أبي صالح ولا أراني إلا قد سمعته منه . وقال إبراهيم بن حميد الرؤاسي : قال الأعمش : وقد سمعته من أبي صالح .

وقال هشيم عن الأعمش : حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة ذكر ذلك الدارقطني فبينت هذه الطرق أن الأعمش سمعه عن غير أبي صالح ثم سمعه منه . قال اليعمري : والكل صحيح والحديث متصل .

قوله : ( الإمام ضامن ) الضمان في اللغة الكفالة والحفظ والرعاية والمراد أنهم ضمناء على الإسرار بالقراءة والأذكار حكي ذلك عن الشافعي في الأم . وقيل : المراد ضمان الدعاء أن يعم القوم به ولا يخص نفسه . وقيل : لأنه يتحمل القيام والقراءة عن المسبوق .

وقال الخطابي : معناه أنه يحفظ على القوم صلاتهم وليس من الضمان الموجب للغرامة

قوله : ( والمؤذن مؤتمن ) قيل : المراد أنه أمين على مواقيت الصلاة . وقيل : أمين على حرم الناس لأنه يشرف على المواضع العالية . والحديث استدل به على فضيلة الأذان وعلى أنه أفضل من الإمامة لأن الأمين أرفع حالا من الضمين ، وقد تقدم الخلاف في ذلك ، ويؤيد قول من قال : إن الإمامة أفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده أموا ولم يؤذنوا وكذا كبار العلماء بعدهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية