صفحة جزء
باب تطهير الأرض النجسة بالمكاثرة

26 - ( عن أبي هريرة قال : { قام أعرابي فبال في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين } . رواه الجماعة إلا مسلما ) .


قوله : ( قام أعرابي ) قال الحافظ في الفتح : زاد ابن عيينة عند الترمذي وغيره في أوله { أنه صلى ثم قال : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لقد تحجرت واسعا ، فلم يلبث أن بال في المسجد } وقد أخرج هذه الزيادة البخاري في الأدب من صحيحه ، وروى ابن ماجه الحديث تاما من حديث أبي هريرة وحديث واثلة بن الأسقع . وأخرجه أبو موسى المديني أيضا من رواية سليمان بن يسار . والأعرابي المذكور قيل : هو ذو الخويصرة اليماني ذكره أبو موسى المديني . وقيل : هو الأقرع بن حابس التميمي ، حكاه التاريخي عن عبد الله بن نافع المدني . وقيل : هو عيينة بن حصن قاله أبو الحسين بن فارس .

قوله : ( ليقعوا به ) في رواية عند البخاري " فزجره الناس " ، وفي أخرى له " فثار إليه الناس " .

وفي أخرى له أيضا " فتناوله الناس " . وله أيضا من [ ص: 61 ] حديث أنس " فقال الصحابة : مه مه " وسيأتي . وللبيهقي " فصاح به الناس " وكذا النسائي .

قوله : ( سجلا ) بفتح المهملة وسكون الجيم . قال أبو حاتم السجستاني هو الدلو ملأى ولا يقال لها ذلك وهي فارغة . قال ابن دريد : السجل : دلو واسعة ، وفي الصحاح الدلو الضخمة ، وقد تقدم إشارة إلى بعض هذا في أول الكتاب .

قوله : ( أو ذنوبا ) قال الخليل : هي الدلو ملأى . وقال ابن فارس : الدلو العظيمة . وقال ابن السكيت : فيها ماء قريب من الملء ، ولا يقال لها وهي فارغة : ذنوب فتكون أو للشك من الراوي أو للتخيير . والمراد بقوله : من ماء مع أن الذنوب من شأنها ذلك رفع الاشتباه ; لأن الذنوب مشترك بينه وبين الفرس الطويل وغيرهما .

قوله : ( فإنما بعثتم ) إسناد البعث إليهم على طريق المجاز ; لأنه هو المبعوث صلى الله عليه وسلم بما ذكر ، لكنهم لما كانوا في مقام التبليغ عنه في حضوره وغيبته أطلق عليهم ذلك . أو هم مبعوثون من قبله بذلك ، أي مأمورون ، وكان ذلك شأنه صلى الله عليه وسلم في حق كل من بعثه إلى جهة من الجهات يقول : { يسروا ولا تعسروا } .

وفي الحديث دليل على أن الصب مطهر للأرض ولا يجب الحفر خلافا للحنفية ، روى ذلك عنهم النووي .

والمذكور في كتبهم أن ذلك مختص بالأرض الصلبة دون الرخوة ، واستدلوا بما أخرجه الدارقطني من حديث أنس بلفظ : { احفروا مكانه ثم صبوا عليه } وأعله بتفرد عبد الجبار به دون أصحاب ابن عيينة الحفاظ .

وكذا رواه سعيد بن منصور من حديث عبد الله بن معقل بن مقرن المزني وهو تابعي مرفوعا بلفظ : { خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء } قال أبو داود : روي مرفوعا يعني موصولا ولا يصح ، وكذا رواه الطحاوي مرسلا وفيه " واحفروا مكانه " .

قال الحافظ في التلخيص : إن الطريق المرسلة مع صحة إسنادها إذا ضمت إلى أحاديث الباب وجدت قوة ، قال : ولها إسنادان موصولان ، أحدهما عن أبي مسعود رواه الدارمي والدارقطني . ولفظه : { فأمر بمكانه فاحتفر وصب عليه دلوا من ماء } وفيه سمعان بن مالك وليس بالقوي ، قاله أبو زرعة ، وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة : هو حديث منكر ، وكذا قال أحمد . وقال أبو حاتم : لا أصل له . وثانيهما : عن واثلة بن الأسقع رواه أحمد والطبراني وفيه عبيد الله بن أبي حميد الهذلي ، وهو منكر الحديث ، قاله البخاري وأبو حاتم .

واستدل بحديث الباب أيضا على نجاسة بول الآدمي وهو مجمع عليه . وعلى أن تطهير الأرض المتنجسة يكون بالماء لا بالجفاف بالريح أو الشمس ; لأنه لو كفى ذلك لما حصل التكليف بطلب الماء ، وهو مذهب العترة والشافعي ومالك وزفر .

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : هما مطهران ; لأنهما يحيلان الشيء ، وكذا قال الخراسانيون من الشافعية في الظل ، واستدلوا بحديث { زكاة الأرض يبسها } . ولا أصل له في المرفوع . [ ص: 62 ] وقد رواه ابن أبي شيبة من قول محمد بن علي الباقر ، ورواه عبد الرزاق من قول أبي قلابة بلفظ : { جفاف الأرض طهورها } . وفي الحديث أيضا دليل على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص إذ لم ينكر صلى الله عليه وسلم على الصحابة ما فعلوه مع الأعرابي ، بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة . وفيه أيضا دليل على ما أشار إليه المصنف رحمه اللهمن أن الأرض تطهر بالمكاثرة . وعلى الرفق بالجاهل في التعليم . وعلى الترغيب في التيسير والتنفير عن التعسير . وعلى احترام المساجد وتنزيهها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قررهم على الإنكار وإنما أمرهم بالرفق .

27 - ( وعن أنس بن مالك قال : { بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزرموه دعوه فتركوه حتى بال ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه ، ثم قال : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر ، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن } . أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : { فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه } . متفق عليه ، لكن ليس للبخاري فيه " إن هذه المساجد " إلى تمام الأمر بتنزيهها . وقوله : " لا تزرموه " أي لا تقطعوا عليه بوله ) . قوله : ( أعرابي ) هو الذي يسكن البادية ، وقد سبق الخلاف في اسمه . قوله : ( مه مه ) اسم فعل مبني على السكون معناه اكفف . قال صاحب المطالع : هي كلمة زجر أصلها ما هذا ، ثم حذف تخفيفا ، وتقال مكررة ومفردة . ومثله به به بالباء الموحدة ، وقال يعقوب : هي لتعظيم الأمر كبخ بخ . وقد تنون مع الكسر وينون الأول ويكسر الثاني بغير تنوين ، وكذا ذكره غير صاحب المطالع .

قوله : ( لا تزرموه ) بضم التاء الفوقية وإسكان الزاي بعدها راء أي لا تقطعوه . والإزرام : القطع . قوله : ( إن هذه المساجد ) . . . إلخ مفهوم الحصر مشعر بعدم جواز ما عدا هذه المذكورة من الأقذار ، والقذى والبصاق ورفع الصوت والخصومات والبيع والشراء وسائر العقود وإنشاد الضالة ، والكلام الذي ليس بذكر ، وجميع الأمور التي لا طاعة فيها ، وأما التي فيها طاعة كالجلوس في المسجد للاعتكاف والقراءة للعلم وسماع الموعظة وانتظار الصلاة ونحو ذلك ، فهذه الأمور وإن لم تدخل في المحصور فيه لكنه أجمع المسلمون على جوازها كما حكاه النووي فيخصص مفهوم الحصر بالأمور التي فيها طاعة لائقة بالمسجد لهذا الإجماع وتبقى الأمور التي لا طاعة [ ص: 63 ] فيها داخلة تحت المنع .

وحكى الحافظ في الفتح الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به ، قال : ولا ريب أن فعل غير المذكورات وما في معناها خلاف الأولى . قوله : ( فجاء بدلو فشنه عليه ) يروى بالشين المعجمة والسين المهملة . قال النووي وهو في أكثر الأصول والروايات بالمعجمة ومعناه صبه . وفرق بعض العلماء بينهما ، فقال : هو بالمهملة الصب بسهولة ، وبالمعجمة التفريق في صبه ، وقد تقدم الكلام على فقه الحديث . قال المصنف رحمه الله: وفيه دليل على أن النجاسة على الأرض إذا استهلكت بالماء ، فالأرض والماء طاهران ، ولا يكون ذلك أمرا بتكثير النجاسة في المسجد انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية