صفحة جزء
باب حكم ما فيه صورة من الثياب والبسط والستور والنهي عن التصوير

571 - ( عن عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه } . رواه البخاري وأبو داود وأحمد ولفظه " لم يكن يدع في بيته ثوبا فيه تصليب إلا نقضه " ) .


الحديث أخرجه أيضا النسائي .

قوله : ( لم يكن يترك في بيته شيئا ) يشمل الملبوس والستور والبسط والآلات وغير ذلك .

قوله : ( فيه تصاليب ) أي صورة صليب من نقش ثوب أو غيره ، والصليب فيه صورة عيسى عليه السلام تعبده النصارى .

قوله : ( نقضه ) بفتح النون والقاف والضاد المعجمة : أي كسره وأبطله وغير صورة الصليب . وفي رواية أبي داود " قضبه " بالقاف المفتوحة والضاد المعجمة والباء الموحدة : أي قطع موضع التصليب منه دون غيره ، والقضب : القطع كذا قال ابن رسلان . والحديث يدل على عدم جواز اتخاذ الثياب والستور والبسط وغيرها التي فيها تصاوير ، وعلى جواز تغيير المنكر باليد من غير استئذان مالكه ، زوجة كانت أو غيرها ، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم { يوم فتح مكة أنه كان يهوي بالقضيب الذي في يده إلى كل صنم فيخر لوجهه ويقول : جاء الحق وزهق الباطل حتى مر على ثلاثمائة وستين صنما } .

وأخرج البخاري من حديث ابن عباس قال : { لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الصور التي في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال : قاتلهم الله ، والله ما استقسما بالأزلام قط } . قال النووي : قال أصحابنا وغيرهم من العلماء : تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بالوعيد الشديد المذكور في الأحاديث ، وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره فصنعته حرام بكل حال ، لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار وفلس وإناء وحائط وغيرها .

وأما تصوير صورة الشجر وجبال الأرض وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام هذا حكم نقش التصوير . وأما اتخاذ ما فيه صورة حيوان فإن كان معلقا على حائط أو ثوبا أو عمامة [ ص: 120 ] أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام ، ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت وسيأتي .

قال : ولا فرق في ذلك كله بين ما له ظل وما لا ظل له قال هذا تلخيص مذهبنا في المسألة ، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم . وقال بعض السلف : إنما ينهى عما كان له ظل ، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل ، وهذا مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصور فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة . وقال الزهري : النهي في الصورة على العموم وكذلك استعمال ما هي فيه ، ودخول البيت الذي هي فيه سواء كانت رقما في ثوب أو غير رقم وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن عملا بظاهر الأحاديث لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم وهذا مذهب قوي وقال آخرون : يجوز منها ما كان رقما في ثوب سواء امتهن أم لا ، وسواء علق في حائط أم لا ، قال : وهو مذهب القاسم بن محمد وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره .

قال القاضي عياض : إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك ، لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لابنته وادعى بعضهم أن إباحة اللعب بالبنات منسوخ بهذه الأحاديث انتهى .

572 - ( وعن عائشة { أنها نصبت سترا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزعه قالت : فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما } . متفق عليه .

وفي لفظ أحمد : فقطعته مرفقتين فلقد رأيته متكئا على إحداهما وفيها صورة ) .

قوله : ( فنزعه ) فيه الإرشاد إلى إزالة التصاوير المنقوشة على الستور .

قوله : ( فقطعته وسادتين ) فيه أن الصورة والتمثال إذا غيرا لم يكن بهما بأس بعد ذلك وجاز افتراشهما والارتفاق عليهما . قوله : ( فكان يرتفق ) في القاموس ارتفق : اتكأ على مرفق يده أو على المخدة .

قوله : ( فقطعته مرفقتين ) تثنية مرفقة كمكنسة وهي المخدة . والحديث يدل على جواز افتراش الثياب التي كانت فيها تصاوير وعلى استحباب الارتفاق لما يشعر به لفظ كان من استمراره على ذلك وكثيرا ما يتجنبه الرؤساء تكبرا .

573 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أتاني جبريل فقال : إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان فيه تمثال [ ص: 121 ] رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل ، وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع يصير كهيئة الشجرة ، وأمر بالستر يقطع فيجعل وسادتين منتبذتين توطآن ، وأمر بالكلب يخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الكلب جرو وكان للحسن والحسين تحت نضد لهم } . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ) . الحديث أخرجه أيضا النسائي . قوله : ( الليلة ) وفي رواية أبي داود " البارحة " . قوله : ( قرام ستر ) بكسر القاف وتخفيف الراء والتنوين ، وروي بحذف التنوين والإضافة ، وهو الستر الرقيق من صوف ذي ألوان . قوله : ( فيه تماثيل ) وفي رواية لمسلم " وقد سترت سهوة لي بقرام " والسهوة : الخزانة الصغيرة ، وفي رواية للنسائي " قال جبريل : كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير " . واختلاف الروايات يبين بعضها بعضا .

قوله : ( فمر ) بضم الميم أي فقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم : مر .

قوله : ( يصير كهيئة الشجرة ) لأن الشجرة ونحوه مما لا روح فيه لا يحرم صنعته ولا التكسب به من غير فرق بين الشجرة المثمرة وغيرها . قال ابن رسلان : وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهدا فإنه جعل الشجرة المثمرة من المكروه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حاكيا عن الله تعالى : { ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي } .

قوله : ( وأمر بالستر ) رواية أبي داود " ومر " ، وكذلك قوله " وأمر بالكلب "

قوله : ( منتبذتين ) أي مطروحتين على الأرض ، ولفظ أبي داود " منبوذتين " .

قوله : ( وكان للحسن والحسين ) فيه جواز تربية جرو الكلب للولد الصغير ، وقد يستدل به على طهارة الكلب ، وقد تقدم الكلام على ذلك وعلى جواز اتخاذه لغير الاصطياد .

قوله : ( تحت نضد ) بفتح النون والضاد المعجمة فعل بمعنى مفعول : أي تحت متاع البيت المنضود بعضه فوق بعض . وقيل : هو السرير سمي بذلك لأن النضد يوضع عليه : أي يجعل بعضه فوق بعض .

وفي حديث مسروق " شجر الجنة نضد من أصلها إلى فرعها " أي ليس لها سوق بارزة ، ولكنها منضودة بالورق والثمار من أسفلها إلى أعلاها . والحديث يدل على أنها لا . تدخل الملائكة البيوت التي فيها تماثيل أو كلب كما ورد من حديث أبي طلحة الأنصاري عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي بلفظ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل } زاد أبو داود والنسائي عن علي مرفوعا " ولا جنب " قيل : أراد الملائكة السياحين غير الحفظة وملائكة الموت . قال في معالم السنن : الملائكة الذين ينزلون بالبركة والرحمة ، وأما الحفظة فلا يفارقون الجنب وغيره .

قال النووي في شرح مسلم : سبب امتناع الملائكة من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة ، وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب كثرة أكله النجاسات ، ولأن بعضها يسمى شيطانا كما جاء في الحديث ، والملائكة ضد [ ص: 122 ] الشياطين ، وخص الخطابي ذلك بما كان يحرم اقتناؤه من الكلاب ، وبما لا يجوز تصويره من الصور لا كلب الصيد والماشية ، ولا الصورة التي في البساط والوسادة وغيرهما ، فإن ذلك لا يمنع دخول الملائكة والأظهر أنه عام في كل كلب وفي كل صورة ، وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث ، ولأن الجرو الذي كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم تحت السرير كان له فيه عذر فإنه لم يعلم به ومع هذا امتنع جبريل من دخول البيت لأجل ذلك الجرو .

574 - ( وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم : أحيوا ما خلقتم } )

575 - ( وعن ابن عباس وجاءه رجل ، فقال : إني أصور هذه التصاوير فأقتني فيها ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا تعذبه في جهنم فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجر وما لا نفس له } . متفق عليهما ) .

الحديثان يدلان على أن التصوير من أشد المحرمات للتوعد عليه بالتعذيب في النار وبأن كل مصور من أهل النار لورود لعن المصورين في أحاديث أخر ، وذلك لا يكون إلا على محرم متبالغ في القبح وإنما كان التصوير من أشد المحرمات الموجبة لما ذكر لأن فيه مضاهاة لفعل الخالق جل جلاله ولهذا سمى الشارع فعلهم خلقا وسماهم خالقين وظاهر قوله " كل مصور " ، وقوله : " بكل صورة صورها " أنه لا فرق بين المطبوع في الثياب وبين ما له جرم مستقل . ويؤيد ذلك ما في حديث عائشة المتقدم من التعميم وما في حديث مسلم وغيره { أن النبي صلى الله عليه وسلم هتك درنوكا لعائشة كان فيه صور الخيل ذوات الأجنحة حتى اتخذت منه وسادتين } والدرنوك : ضرب من الثياب أو البسط وما أخرج البخاري ومسلم والموطأ والنسائي من حديث عائشة قالت : { قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه ، وقال : يا عائشة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله } .

وما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من صور صورة عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ } فهذه الأحاديث قاضية بعدم الفرق [ ص: 123 ] بين المطبوع من الصور والمستقل ، لأن اسم الصورة صادق على الكل إذ هي كما في كتب اللغة : الشكل ، وهو يقال لما كان منها مطبوعا على الثياب شكلا ، نعم حديث أبي طلحة عند مسلم وأبي داود وغيرهما بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تمثال } وفيه أنه قال : إلا رقما في ثوب فهذا إن صح رفعه كان مخصصا لما رقم في الأثواب من التماثيل . قوله : ( أحيوا ما خلقتم ) هذا من باب التعليق بالمحال والمراد أنهم يعذبون يوم القيامة ويقال لهم : لا تزالون في عذاب حتى تحيوا ما خلقتم وليسوا بفاعلين وهو كناية عن دوام العذاب واستمراره وهذا الذي قدرناه في تفسير الحديث مصرح بمعناه في حديث ابن عباس المتقدم والأحاديث يفسر بعضها بعضا .

قوله : ( فاجعل الشجر وما لا نفس له ) فيه الإذن بتصوير الشجر وكل ما ليس له نفس وهو يدل على اختصاص التحريم بتصوير الحيوانات . قال في البحر : ولا يكره تصوير الشجر وما نحوها من الجماد إجماعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية