صفحة جزء
باب ما جاء في المني .

41 - ( عن عائشة قالت : { كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهب فيصلي فيه } . رواه الجماعة إلا البخاري ولأحمد { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ، ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه } ، وفي لفظ متفق عليه .

{ كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء } ، وللدارقطني عنها : { كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسا وأغسله إذا كان رطبا } . قلت : فقد بان من مجموع النصوص جواز الأمرين ) .

42 - ( وعن إسحاق بن يوسف قال : حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس قال : { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب ، فقال : إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة } . رواه الدارقطني وقال : لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك : قلت : وهذا لا يضر ; لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين فيقبل رفعه وزيادته ) .


حديث عائشة لم يسنده البخاري وإنما ذكره في ترجمة باب . ولفظ أبي داود " ثم يصلي فيه " ولفظ الترمذي : { ربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعي } وفي رواية : { وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري } . وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي والدارقطني { عن عائشة : أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي } . وأخرج أبو عوانة في صحيحه وأبو بكر البزار من حديث عائشة : { كنت [ ص: 75 ] أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسا وأغسله إذا كان رطبا } كحديث الباب وأعله البزار بالإرسال .

قال الحافظ : وقد ورد الأمر بفركه من طريق صحيحة رواها ابن الجارود في المنتقى عن محمد بن يحيى عن أبي حذيفة عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام بن الحارث قال : { كان عند عائشة ضيف فأجنب فجعل يغسل ما أصابه فقالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بحته } . قال : وأما الأمر بغسله فلا أصل له .

وحديث ابن عباس أخرجه أيضا البيهقي والطحاوي مرفوعا ، وأخرجه أيضا البيهقي موقوفا على ابن عباس وقال : الموقوف هو الصحيح . قوله : ( أفرك ) أي أدلك . قوله : ( بعرق الإذخر ) هو حشيش طيب الريح .

قوله : ( كنت أغسله ) أي أثر الجنابة أو المني . قوله : ( بقع الماء ) هو بدل من أثر الغسل . وقد استدل بما في الباب على أنه يكتفى في إزالة المني من الثوب بالغسل أو الفرك أو الحت ، وقد اختلف أهل العلم في المني فذهبت العترة وأبو حنيفة ومالك إلى نجاسته إلا أن أبا حنيفة قال : يكفي في تطهيره فركه إذا كان يابسا ، وهو رواية عن أحمد . وقالت العترة ومالك : لا بد من غسله رطبا ويابسا . وقال الليث : هو نجس ولا تعاد منه الصلاة .

وقال الحسن بن صالح : لا تعاد الصلاة من المني في الثوب وإن كان كثيرا ، وتعاد منه إن كان في الجسد وإن قل قال ابن حزم في المحلى : وروينا غسله من عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأنس وسعيد بن المسيب ، وقال الشافعي وداود وهو أصح الروايتين عن أحمد بطهارته ، ونسبه النووي إلى الكثيرين وأهل الحديث ، قال : وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة ، قال : وقد غلط من أوهم أن الشافعي منفرد بطهارته .

احتج القائلون بنجاسته بما روي في غسله والغسل لا يكون إلا لشيء نجس . وأجيب بأنه لم يثبت الأمر بغسله من قوله صلى الله عليه وسلم في شيء من أحاديث الباب ، وإنما كانت تفعله عائشة ولا حجة في فعلها إلا إذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بفعلها وأقرها على أن علمه بفعلها وتقريره لها لا يدل على المطلوب ، لأن غاية ما هناك أنه يجوز غسل المني من الثوب ، وهذا مما لا خلاف فيه ، بل يجوز غسل ما كان متفقا على طهارته كالطيب والتراب فكيف بما كان مستقذرا .

وأما الاحتجاج بحديث عمار مرفوعا بلفظ : { إنما نغسل الثوب من الغائط والبول والمذي والمني والدم والقيء } أخرجه البزار وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما وابن عدي في الكامل الدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء ، وأبو نعيم في المعرفة ، فأجيب عنه بأن الجماعة المذكورين كلهم ضعفوه إلا أبا يعلى ; لأن في إسناده ثابت بن حماد اتهمه بعضهم بالوضع . وقال اللالكائي : أجمعوا على ترك حديثه ، وقال البزار : لا يعلم لثابت إلا هذا الحديث . وقال الطبراني : انفرد به ثابت بن حماد ولا يروى عن عمار إلا بهذا الإسناد .

وقال البيهقي : [ ص: 76 ] هذا حديث باطل إنما رواه ثابت بن حماد وهو متهم . قال الحافظ : قلت : ورواه البزار والطبراني من طريق إبراهيم بن زكريا عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، لكن إبراهيم ضعيف ، وقد غلط فيه إنما يرويه ثابت بن حماد انتهى .

فهذا مما لا يجوز الاحتجاج بمثله . واحتج القائلون بالطهارة برواية الفرك ، ويجاب عنه بمثل ما سلف من أنه من فعل عائشة ، إلا أنه إذا فرض اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك أفاد المطلوب وهو الاكتفاء في إزالة المني بالفرك ، لأن ثوب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيه بعد ذلك كما ثبت في الرواية المذكورة في الباب ، ولو كان الفرك غير مطهر ، لما اكتفى به ولا صلى فيه ، ولو فرض عدم اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على الفرك فصلاته في ذلك الثوب كافية ، لأنه لو كان نجسا لنبه عليه حال الصلاة بالوحي كما نبه بالقذر الذي في النعل .

وأيضا ثبت السلت للرطب والحك لليابس من فعله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الباب ، وثبت أمره بالحت وقال : { إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة } وأجيب بأن ذلك لا يدل على الطهارة وإنما يدل على كيفية التطهير فغاية الأمر أنه نجس خفف في تطهيره بما هو أخف من الماء والماء لا يتعين لإزالة جميع النجاسات كما حررناه في هذا الشرح سابقا ، وإلا لزم طهارة العذرة التي في النعل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمسحها في التراب ورتب على ذلك الصلاة فيها ، قالوا : قال صلى الله عليه وسلم : { إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق والبصاق } كما في الحديث السابق .

وأجيب بأنه موقوف كما قال البيهقي قالوا : الأصل الطهارة فلا ينتقل عنها إلا بدليل . وأجيب بأن التعبد بالإزالة غسلا أو مسحا أو فركا أو حتا أو سلتا أو حكا ثابت ، ولا معنى لكون الشيء نجسا إلا أنه مأمور بإزالته بما أحال عليه الشارع . فالصواب أن المني نجس يجوز تطهيره بأحد الأمور الواردة ، وهذا خلاصة ما في المسألة من الأدلة من جانب الجميع .

وفي المقام مطاولات ومقاولات والمسألة حقيقة بذاك ، ولكنه أفضى الأمر إلى تلفيق حجج واهية كالاحتجاج بتكرمة بني آدم . وبكون الآدمي طاهرا من جانب القائل بالطهارة وكالاحتجاج بأنه فضلة مستحيلة إلى مستقذر . وبأن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة والمني منها ، وبكونه جاريا من مجرى البول من جانب القائل بالنجاسة . وهذا الكلام في مني الآدمي ، وأما مني غير الآدمي ففيه وجوه وتفصيلات مذكورة في الفروع فلا نطول بذكرها .

( فائدة ) صرح الحافظ في الفتح : بأنه لا معارضة بين حديث الغسل والفرك لأن الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب ، قال : وهذه طريقة الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث . وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطبا ، والفرك على ما كان يابسا ، [ ص: 77 ] وهذه طريقة الحنفية ، قال : والطريقة الأولى أرجح لأن فيها العمل بالخبر والقياس معا ، لأنه لو كان نجسا لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره فيما لا يعفى عنه من الدم بالفرك ، ويرد الطريقة الثانية أيضا ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة : { كان يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه } فإنه تضمن ترك الغسل في الحالتين . انتهى كلامه ، والحق ما عرفته .

التالي السابق


الخدمات العلمية