صفحة جزء
640 - ( وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا : لا رد الله عليك } . رواه الترمذي ) .

641 - ( وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد ، وأن تنشد فيه الأشعار ، وأن تنشد فيه الضالة ، وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة } . رواه الخمسة وليس للنسائي فيه إنشاد الضالة ) .


الحديث الأول أخرجه النسائي في اليوم والليلة وحسنه الترمذي ، والحديث الثاني حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة . قال الحافظ في الفتح : وإسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب فمن يصحح نسخته يصححه . قال : وفي المعنى أحاديث لكن في أسانيدها مقال انتهى . وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه مقال مشهور . قال الترمذي : قال محمد بن إسماعيل : رأيت أحمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب قال : وقد سمع شعيب بن محمد من عبد الله بن عمرو . قال أبو عيسى : ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث من صحيفة جده كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده ، قال علي بن عبد الله ابن المديني : قال يحيى بن سعيد : حديث عمرو بن شعيب عندنا واه

وفي الباب عن بريدة عند مسلم وابن ماجه والنسائي ، وعن جابر عند النسائي ، وعن أنس عند الطبراني ، قال العراقي : ورجاله ثقات . وعن أبي هريرة من طريق أخرى غير التي في الباب عند مسلم . وعن سعد بن أبي وقاص عند البزار ، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة . وعن ابن مسعود عند البزار أيضا والطبراني وعن ثوبان عند الطبراني أيضا ، هذا ليس بثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يورده ابن حبان في الصحابة ولا ابن عبد البر وأورده ابن منده

وعن معاذ بن جبل عند الطبراني أيضا وعن ابن عمر عند ابن ماجه . وعن واثلة بن الأسقع عند ابن ماجه أيضا . وعن عصمة عند الطبراني . وعن أبي سعيد عند ابن أبي حاتم في العلل . والحديثان يدلان على تحريم البيع والشراء وإنشاد الضالة وإنشاد الأشعار والتحلق يوم الجمعة قبل الصلاة ، وقد تقدم الكلام في إنشاد الضالة . أما البيع والشراء فذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة ، قال [ ص: 185 ] العراقي : وقد أجمع العلماء على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه ، وهكذا قال الماوردي . وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين بأن النهي حقيقة في التحريم وهو الحق وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة

وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا يكره البيع والشراء في المسجد والأحاديث ترد عليه . وفرق أصحاب أبي حنيفة بين أن يغلب ذلك ويكثر فيكره أو يقل فلا كراهة وهو فرق لا دليل عليه وأما إنشاد الأشعار في المسجد فحديث الباب وما معناه يدل على عدم جوازه ويعارضه ما سيأتي من قصة عمر وحسان وتصريح حسان بأنه كان ينشد الشعر بالمسجد وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك حديث جابر بن سمرة الآتي ، وقد جمع بين الأحاديث بوجهين

الأول : حمل النهي على التنزيه والرخصة على بيان الجواز . والثاني : حمل أحاديث الرخصة على الشعر الحسن المأذون فيه كهجاء حسان للمشركين ومدحه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ، ويحمل النهي على التفاخر والهجاء ونحو ذلك ، ذكر هذين الوجهين العراقي في شرح الترمذي ، وقد بوب النسائي على قصة حسان مع عمر بن الخطاب فقال : باب الرخصة في إنشاد الشعر الحسن . وقال الشافعي : الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح . وقد ورد هذا مرفوعا في غير حديث ، فروى أبو يعلى عن عائشة قالت : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشعر فقال : هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح } . قال العراقي : وإسناده حسن ، ورواه أيضا البيهقي في سننه من طريق أبي يعلى . ثم قال : وصله جماعة . والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل

وروى الطبراني في الأوسط من رواية إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد بن نعيم عن عبد الرحمن بن رافع وحبان بن حبلة وبكر بن سوادة عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشعر بمنزلة الكلام { فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام } وقد جمع الحافظ بين الأحاديث بحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين وحمل المأذون فيه على ما سلم من ذلك ، ولكن حديث جابر بن سمرة الآتي فيه التصريح بأنهم كانوا يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية ، قال : وقيل المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالبا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه ، وأبعد أبو عبد الله البوني فأعمل أحاديث النهي وادعي النسخ في حديث الإذن ، ولم يوافق على ذلك ، حكاه ابن التين عنه انتهى

وقد تقرر أن الجمع بين الأحاديث ما أمكن هو الواجب وقد أمكن هنا بلا تعسف كما عرفت . قال ابن العربي : لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين وإقامة الشرع ، وإن كان فيه الخمر ممدوحة بصفاتها الخبيثة من طيب رائحة [ ص: 186 ] وحسن لون إلى غير ذلك مما يذكره من يعرفها ، وقد مدح فيه كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

إلى قوله في صفة ريقها :

كأنه منهل بالراح معلول

قال العراقي : وهذه القصيدة قد رويناها من طرق لا يصح منها شيء وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع ، وعلى تقدير ثبوت القصيدة عن كعب وإنشادها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد أو غيره فليس فيها مدح الخمر وإنما مدح ريقها وتشبيهه بالراح ، قال : ولا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا لم يرفع به صوته بحيث يشوش بذلك على مصل أو قارئ أو منتظر الصلاة ، فإن أدى إلى ذلك كره ، ولو قيل بتحريمه لم يكن بعيدا .

وقد قدمنا ما يدل على النهي عن رفع الصوت في المساجد مطلقا في باب حمل المحدث . أما التحلق يوم الجمعة في المسجد قبل الصلاة فحمل النهي عنه الجمهور على الكراهة ، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف الأول فالأول . وقال الطحاوي : والتحليق المنهي عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه فهو مكروه وغير ذلك لا بأس به والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم والذكر . والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيرها كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي واقد الليثي ، قال : { بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فأقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم } الحديث

وأما التحلق في المسجد في أمور الدنيا فغير جائز . وفي حديث ابن مسعود { سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا أمانيهم الدنيا فلا تجالسوهم فإنه ليس لله فيهم حاجة } ذكره العراقي في شرح الترمذي قال : وإسناده ضعيف فيه بزيغ أبو الخليل وهو ضعيف جدا . قوله : ( وعن الحلق ) بفتح المهملة ويجوز كسرها واللام مفتوحة على كل حال جمع حلقة بإسكان اللام على غير قياس وحكي فتحها أيضا كذا في الفتح .

التالي السابق


الخدمات العلمية