صفحة جزء
[ ص: 78 ] باب في أن الآدمي المسلم لا ينجس بالموت ولا شعره وأجزاؤه بالانفصال ( قد أسلفنا قوله صلى الله عليه وسلم : { المسلم لا ينجس } ) وهو عام في الحي والميت قال البخاري : وقال ابن عباس : " المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا " .

44 - ( وعن أنس بن مالك { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رمى الجمرة ، ونحر نسكه وحلق ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه ، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ، ثم ناوله الشق الأيسر ، فقال : احلقه فحلقه فأعطاه أبا طلحة وقال : اقسمه بين الناس } . متفق عليه ) .

45 - ( وعن أنس قال : { لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق الحجام رأسه أخذ أبو طلحة بشعر أحد شقي رأسه بيده فأخذ شعره فجاء به إلى أم سليم قال : وكانت أم سليم تدوفه في طيبها } . رواه أحمد ) .

46 - ( وعن أنس بن مالك { أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعا فيقيل عندها على ذلك النطع ، فإذا قام أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جعلته في سك ، قال : فلما حضرت أنس بن مالك الوفاة أوصى أن يجعل في حنوطه } . أخرجه البخاري ) .

47 - ( وفي حديث صلح الحديبية من رواية مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، { أن عروة بن مسعود قام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه ولا يبسق بساقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه } . رواه أحمد ) .

48 - ( وعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال : { أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها بإناء فخضخضت له فشرب منه ، فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمرا } . رواه البخاري ) . [ ص: 79 ]

49 - ( وعن عبد الله بن زيد وهو صاحب الأذان { أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم عند المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحي فلم يصبه شيء ولا صاحبه فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه فأعطاه منه ، وقسم منه على رجال ، وقلم أظفاره فأعطى صاحبه ، قال : وإنه شعره عندنا لمخضوب بالحناء والكتم } . رواه أحمد ) .


أحاديث الباب يشهد بعضها لبعض ، وقد أخرج أحمد كل حديث منها من طرق . قوله : ( في ترجمة الباب قد أسلفنا قوله صلى الله عليه وسلم : المسلم لا ينجس . . . إلخ ) قد تقدم الحديث في باب طهارة الماء المتوضأ به ، وتقدم شرحه هنا لك . قوله : ( وعن أنس ) سيأتي هذا الحديث بنحو ما هنا في الحج في باب النحر والحلاق ، وقد روي بألفاظ منها ما ذكره المصنف هنا ، ومنها ما أخرجه أبو عوانة في صحيحه بلفظ : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الحلاق فحلق رأسه ودفع إلى أبي طلحة الشق الأيمن ، ثم حلق الشق الآخر ، فأمره أن يقسمه بين الناس } ولمسلم من رواية : { أنه قسم الأيمن فيمن يليه } وفي لفظ : { فوزعه بين الناس الشعرة والشعرتين وأعطى الأيسر أم سليم } وفي لفظ : { فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره صلى الله عليه وسلم ، وأما الأيسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره صلى الله عليه وسلم لتجعله في طيبها } قال النووي : فيها استحباب البداءة بالشق الأيمن من رأس المحلوق وهو قول الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة .

وفيه طهارة شعر الآدمي ، وبه قال الجمهور ، وفيه التبرك بشعره صلى الله عليه وس لم .

وفيه المواساة بين الأصحاب بالعطية والهدية . قال الحافظ : وفيه أن المواساة لا تستلزم المساواة .

وفيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره ، واختلفوا في اسم الحالق فالصحيح أنه معمر بن عبد الله كما ذكره البخاري ، وقيل : أبو خراش بن أمية ، والصحيح أنه كان الحالق بالحديبية . وذهب جماعة من الشافعية إلى أن الشعر نجس ، وهي طريقة العراقيين وأحاديث الباب ترد عليهم ، واعتذارهم عنها بأن النبي صلى الله عليه وسلم مكرم لا يقاس عليه غيره اعتذار فاسد ، لأن الخصوصيات لا تثبت إلا بدليل .

قال الحافظ : فلا يلتفت إلى ما وقع في كثير من كتب الشافعية مما يخالف القول بالطهارة ، فقد استقر القول من أئمتهم على الطهارة ، هذا كله في شعر الآدمي ، وأما شعر غيره من غير المأكول ففيه خلاف مبني على أن الشعر هل تحله الحياة فينجس بالموت أو لا ؟ فذهب جمهور العلماء إلى أنه لا ينجس بالموت وذهبت الشافعية إلى أنه ينجس بالموت . واستدل للطهارة بما ذكره ابن المنذر من أنهم أجمعوا على طهارة ما يجز من الشاة وهي حية ، وعلى نجاسة ما يقطع من أعضائها ، وهي حية ، فدل ذلك على التفرقة بين الشعر وغيره من أجزائها ، وعلى التسوية [ ص: 80 ] بين حالتي الموت والحياة .

قوله : ( تدوفه ) الدوف : الخلط والبل بماء ونحوه ، دفت المسك فهو مدوف ومدووف أي مبلول أو مسحوق ، ولا نظير له سوى مصوون كذا في القاموس ، ومثله في النهاية . قوله : ( نطعا ) بكسر النون وفتحها مع سكون الطاء وتحريكها : بساط من الأدم الجمع أنطع ونطوع . قوله : ( في سك ) بمهملة مضمومة فكاف مشددة ، وهو طيب يتخذ من الرامك مدقوقا منخولا معجونا بالماء ويعرك شديدا ، ويمسح بدهن الخيري لئلا يلصق بالإناء ويترك ليلة ، ثم يسحق المسك ويعرك شديدا ويترك يومين ، ثم يثقب بمسلة وينظم في خيط قنب ويترك سنة ، وكلما عتق طابت رائحته ، قاله في القاموس ، والرامك بالراء كصاحب : شيء أسود يخلط بالمسك والقنب : نوع من الكتان .

وفيه دليل على طهارة العرق ; لأنه وقع منه صلى الله عليه وسلم التقرير لأم سليم وهو مجمع على طهارته من الآدمي . وقوله : ( بجلجل ) بجيمين مضمومتين بينهما لام : الجرس . قال الكرماني : ويحمل على أنه كان مموها بفضة لا أنه كان كله فضة . قال الحافظ : وهذا ينبني على أن أم سلمة كانت لا تجيز استعمال آنية الفضة في غير الأكل والشرب ، ومن أين له ذلك فقد أجاز ذلك جماعة من العلماء . قلت : والحق الجواز إلا في الأكل والشرب ; لأن الأدلة لم تدل على غيرها بين الحالتين . قوله : ( فخضخضت ) بخاءين وضادين معجمات والخضخضة : تحريك الماء . قوله : ( والكتم ) هو نبت يخلط بالحناء ، وسيأتي ضبطه وتفسيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية