صفحة جزء
باب ما جاء في بسم الله الرحمن الرحيم

685 - ( عن أنس بن مالك : قال { : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم } . رواه أحمد ومسلم ، وفي لفظ : { صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم } . رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الصحيح ، ولأحمد ومسلم : { صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب [ ص: 231 ] العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها } ، ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : { صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ، قال شعبة : فقلت لقتادة : أنت سمعته من أنس ؟ قال : نعم نحن سألناه عنه } ، وللنسائي عن منصور بن زاذان عن أنس قال : { صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما } ) .


الحديث قد استوفى المصنف رحمه اللهأكثر ألفاظه . ورواية : { فكانوا لا يجهرون } أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والطحاوي والطبراني .

وفي لفظ لابن خزيمة : { كانوا يسرون } وقوله : { كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين } هذا متفق عليه وإنما انفرد مسلم بزيادة { لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم } وقد أعل هذا اللفظ بالاضطراب لأن جماعة من أصحاب شعبة رووه عنه بهذا ، وجماعة رووه منه بلفظ { فلم أسمع أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم } وأجاب الحافظ عن ذلك بأنه قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين . وأخرجه البخاري في جزء القراءة والنسائي وابن ماجه عن أيوب وهؤلاء والترمذي من طريق أبي عوانة والبخاري فيه وأبو داود من طريق هشام الدستوائي والبخاري فيه وابن حبان من طريق حماد بن سلمة والبخاري فيه ، والسراج من طريق همام كلهم عن قتادة باللفظ الأول وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعي عن قتادة بلفظ { لم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم } ورواه أبو يعلى والسراج وعبد الله بن أحمد عن أبي داود والطيالسي عن شعبة بلفظ : " فلم يكونوا يفتتحون القراءة " إلى آخر ما ذكره المصنف . وفي الباب عن عائشة عند مسلم وعن أبي هريرة عند ابن ماجه ، وفي إسناده بشر بن رافع ، وقد ضعفه غير واحد ، وله حديث آخر عند أبي داود والنسائي وابن ماجه ، وله حديث ثالث سيأتي ذكره وعن عبد الله بن مغفل وسيأتي أيضا . وقد استدل بالحديث من قال إنه لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهم على ما حكاه ابن سيد الناس في شرح الترمذي علماء الكوفة ومن شايعهم . قال : وممن رأى الإسرار بها عمر وعلي وعمار . وقد اختلف عن بعضهم فروي عنه الجهر بها ، وممن لم يختلف عنه أنه كان يسر بها عبد الله بن مسعود ، وبه قال أبو جعفر محمد بن علي بن حسين والحسن وابن سيرين

وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير وروي عنهما الجهر بها ، وروي عن علي أنه كان لا يجهر بها وعن سفيان وإليه ذهب الحكم والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو عبيد ، وحكي عن النخعي ، وروي عن عمر قال أبو عمر من وجوه ليست بالقائمة إنه قال : يخفي الإمام أربعا التعوذ وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين وربنا لك الحمد . وروى علقمة والأسود عن عبد الله بن مسعود [ ص: 232 ] قال : ثلاث يخفيهن الإمام الاستعاذة وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين .

وروي نحو ذلك عن إبراهيم والثوري وعن الأسود صليت خلف عمر سبعين صلاة فلم يجهر فيها ببسم الله الرحمن الرحيم وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم أنه قال : الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بدعة . وروى الترمذي والحازمي الإسرار عن أكثر أهل العلم

وأما الجهر بها عند الجهر بالقراءة فروي عن جماعة من السلف ، قال ابن سيد الناس : روي ذلك عن عمر وابن عمر وابن الزبير وابن عباس وعلي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعن عمر فيها ثلاث روايات أنه لا يقرؤها وأنه يقرؤها سرا وأنه يجهر بها . وكذلك اختلف عن أبي هريرة في جهره بها وإسراره . وروى الشافعي بإسناده عن أنس بن مالك قال : " صلى معاوية بالناس بالمدينة صلاة جهر فيها بالقراءة فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر في الخفض والرفع فلما فرغ ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية نقصت الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير إذا خفضت ورفعت فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر " . وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح على شرط مسلم . وذكره الخطيب عن أبي بكر الصديق وعثمان وأبي بن كعب وأبي قتادة وأبي سعيد وأنس وعبد الله بن أبي أوفى وشداد بن أوس وعبد الله بن جعفر والحسين بن علي ومعاوية

قال الخطيب : وأما التابعون ومن بعدهم ممن قال بالجهر بها فهم أكثر من أن يذكروا وأوسع من أن يحصروا منهم سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وأبو وائل وسعيد بن جبير وابن سيرين وعكرمة وعلي بن الحسين وابنه محمد بن علي وسالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن المنكدر وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن كعب ونافع مولى ابن عمر وأبو الشعثاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول وحبيب بن أبي ثابت والزهري وأبو قلابة وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه والأزرق بن قيس وعبد الله بن معقل بن مقرن وممن بعد التابعين عبيد الله العمري والحسن بن زيد وزيد بن علي بن حسين ومحمد بن عمر بن علي وابن أبي ذئب والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه . وزاد البيهقي في التابعين عبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية وسليمان التيمي

ومن تابعيهم المعتمر بن سليمان وزاد أبو عمر عن أصبغ بن الفرج قال : كان ابن وهب يقول بالجهر ، ثم رجع إلى الإسرار ، وحكاه غيره عن ابن المبارك وأبي ثور . وذكر البيهقي في الخلافيات أنه اجتمع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم حكاه عن أبي جعفر الهاشمي ومثله في الجامع الكافي وغيره من كتب العترة . وقد ذهب جماعة من أهل البيت إلى الجهر بالبسملة . وعن أبي جعفر الهاشمي مثله ، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه ، ونقل عن مالك قراءتها في النوافل في فاتحة الكتاب وسائر سور القرآن . وقال طاوس : تذكر في فاتحة الكتاب ولا تذكر في السورة بعدها . وحكي عن [ ص: 233 ] جماعة أنها لا تذكر سرا ولا جهرا ، وأهل هذه المقالة منهم القائلون إنها ليست من القرآن

وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن ابن أبي ليلى والحكم أن الجهر والإسرار بها سواء فهذه المذاهب في الجهر بها وإثبات قراءتها ونفيها

. وقد اختلفوا هل هي آية من الفاتحة فقط أو من كل سورة ، أو ليست بآية ، فذهب ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وطاوس وعطاء ومكحول وابن المبارك وطائفة إلى أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة غير براءة ، وحكي عن أحمد وإسحاق وأبي عبيد وجماعة من أهل الكوفة ومكة وأكثر العراقيين ، وحكاه الخطابي عن أبي هريرة وسعيد بن جبير ، ورواه البيهقي في الخلافيات بإسناده عن علي بن أبي طالب والزهري وسفيان الثوري ، وحكاه في السنن الكبرى عن ابن عباس ومحمد بن كعب أنها آية من الفاتحة فقط . وحكي عن الأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وداود وهو رواية عن أحمد أنها ليست آية في الفاتحة ولا في أوائل السور

وقال أبو بكر الرازي وغيره من الحنفية : هي آية بين كل سورتين غير الأنفال وبراءة وليست من السور بل هي قرآن مستقل كسورة قصيرة وحكي هذا عن داود وأصحابه وهو رواية عن أحمد . واعلم أن الأمة أجمعت أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها بخلاف ما لو نفى حرفا مجمعا عليه أو أثبت ما لم يقل به أحد فإنه كفر بالإجماع . ولا خلاف أنها آية في أثناء سورة النمل ولا خلاف في إثباتها خطا في أوائل السور في المصحف إلا في أول سورة التوبة . وأما التلاوة فلا خلاف بين القراء السبعة في أول فاتحة الكتاب وفي أول كل سورة إذا ابتدأ بها القارئ ما خلا سورة التوبة . وأما في أوائل السور مع الوصل بسورة قبلها فأثبتها ابن كثير وقالون وعاصم والكسائي من القراء في أول كل سورة إلا أول سورة التوبة وحذفها منهم أبو عمرو وحمزة وورش وابن عامر . وقد احتج القائلون بالإسرار بها بحديث الباب وحديث ابن مغفل الآتي وغيرهما مما ذكرنا .

واحتج القائلون بالجهر بها في الصلاة الجهرية بأحاديث

منها حديث أنس وحديث أم سلمة الآتيان وسيأتي الكلام عليهما ومنها حديث ابن عباس عند الترمذي والدارقطني بلفظ { كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم } . قال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بذاك وفي إسناده إسماعيل بن حماد ، قال البزار : إسماعيل لم يكن بالقوي . وقال العقيلي : غير محفوظ ، وقد وثق إسماعيل يحيى بن معين .

وقال أبو حاتم : يكتب حديثه وفي إسناده أبو خالد الوالبي اسمه هرمز وقيل هرم ، قال الحافظ : مجهول . وقال أبو زرعة : لا أعرف من هو . وقال أبو حاتم : صالح الحديث . وقد ضعف أبو داود [ ص: 234 ] هذا الحديث ، روى ذلك عنه الحافظ في التلخيص . وللحديث طريق أخرى عن ابن عباس رواها الحاكم بلفظ { كان يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم } وصحح الحاكم هذه الطريق وخطأه الحافظ في ذلك لأن في إسنادها عبد الله بن عمرو بن حسان وقد نسبه ابن المديني إلى الوضع للحديث وقد رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن يحيى بن آدم عن شريك ، ولم يذكر ابن عباس في إسناده ، بل أرسله وهو الصواب من هذا الوجه قاله الحافظ .

وقال أبو عمر : الصحيح في هذا الحديث أنه روي عن ابن عباس من فعله لا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنها ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر في السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم } وفي إسناده عمر بن حفص المكي وهو ضعيف . وأخرجه أيضا عنه من طريق أخرى وفيها أحمد بن رشيد بن خثيم عن عمه سعيد بن خثيم وهما ضعيفان . ومنها ما أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة بلفظ : { قال نعيم المجمر : صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن ، وفيه : ويقول إذا سلم : والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم } وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال : على شرط البخاري ومسلم ، وقال البيهقي : صحيح الإسناد وله شواهد وقال أبو بكر الخطيب فيه ثابت صحيح لا يتوجه عليه تعليل .

ومنها عن أبي هريرة أيضا عند الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم : { كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم } قال الدارقطني : رجال إسناده كلهم ثقات انتهى .

وفي إسناده عبد الله بن عبد الله الأصبحي روي عن ابن معين توثيقه وتضعيفه ، وقال ابن المديني كان عند أصحابنا ضعيفا وقد تكلم فيه غير واحد . ومنها عن أبي هريرة أيضا عند الدارقطني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا قرأتم الحمد فاقرءوا : بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آيها } قال اليعمري : وجميع رواته ثقات إلا أن نوح بن أبي بلال الراوي له عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة تردد فيه فرفعه تارة ووقفه أخرى وقال الحافظ : هذا الإسناد رجاله ثقات ، وصحح غير واحد من الأئمة وقفه على رفعه وأعله ابن القطان بتردد نوح المذكور وتكلم فيه ابن الجوزي من أجل عبد الحميد بن جعفر فإن فيه مقالا ، ولكن متابعة نوح له مما تقويه .

ومنها عن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر { أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم } أخرجه الدارقطني وفي إسناده جابر الجعفي وإبراهيم بن الحكم بن ظهير وغيرهما ممن لا يعول عليه . ومنها عن علي أيضا بلفظ : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في صلاته } أخرجه الدارقطني وقال : هذا إسناد علوي لا بأس به وله طريق أخرى عنده عنه بلفظ : { أنه سئل عن السبع المثاني فقال : [ ص: 235 ] الحمد لله رب العالمين ، قيل إنما هي ست فقال : بسم الله الرحمن الرحيم } وإسناده كلهم ثقات وقال الحافظ في الحديث الأول الذي قال إنه لا بأس بإسناده : إنه بين ضعيف ومجهول . ومنها عن عمر : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة فأراد أن يقرأ قال بسم الله الرحمن الرحيم } رواه ابن عبد البر قال : ولا يثبت فيه إلا أنه موقوف .

ومنها عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كيف تقرأ إذا قمت في الصلاة ؟ قلت : أقرأ الحمد لله رب العالمين ، قال : قل بسم الله الرحمن الرحيم } رواه الشيخ أبو الحسن وفي إسناده الجهم بن عثمان قال أبو حاتم : مجهول . ومنها عن سمرة قال : { كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان : سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وسكتة إذا فرغ من القراءة فأنكر ذلك عمران بن الحصين فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن صدق سمرة } أخرجه الدارقطني وإسناده جيد غير أن الحديث أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما بلفظ : " سكتة حين يفتتح ، وسكتة إذا فرغ من السورة "

ومنها عن أنس قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم } أخرجه الدارقطني أيضا . وله طريق أخرى عن أنس عند الدارقطني والحاكم بمعناه .

ومنها عن أنس أيضا بلفظ : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم } أخرجه الحاكم قال : ورواته كلهم ثقات . ومنها عن عائشة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم } . ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي ، وفي إسناده الحكم بن عبد الله بن سعد ، وقد تكلم فيه غير واحد . ومنها عن بريدة بن الحصيب بنحو حديث عائشة ، وفيه جابر الجعفي وليس بشيء ، وله طريق أخرى فيها سلمة بن صالح وهو ذاهب الحديث .

ومنها عن الحكم بن عمر وغيره من طرق لا يعول عليها ومنها عن ابن عمر قال : { صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم } أخرجه الدارقطني ، قال الحافظ : وفيه أبو طاهر أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي العلوي وقد كذبه أبو حاتم وغيره ، ومن دونه أيضا ضعيف ومجهول ورواه الخطيب عن ابن عمر من وجه آخر وفيه مسلم بن حبان وهو مجهول ، قال : والصواب أن ذلك عن ابن عمر غير مرفوع

فهذه الأحاديث فيها القوي والضعيف كما عرفت ، وقد عارضتها الأحاديث الدالة على ترك البسملة التي قدمناها ، وقد حملت روايات حديث أنس السابقة على ترك الجهر لا ترك البسملة مطلقا لما في تلك الرواية التي قدمناها في حديثه بلفظ : " فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " وكذلك حملت رواية حديث عبد الله بن مغفل الآتية وغيرهما حملا لما أطلقته أحاديث نفي قراءة البسملة على تلك الرواية المقيدة بنفي الجهر فقط ، وإذا كان محصل أحاديث نفي البسملة هو نفي الجهر بها فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على [ ص: 236 ] نفيه .

قال الحافظ : لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافي ، لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشرة سنين ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلا يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا فلم يستحضر الجهر بالبسملة فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر ا هـ .

ويؤيد ما قاله الحافظ من عدم استحضار أنس لذلك ما أخرجه الدارقطني عن أبي سلمة قال : { سألت أنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله الرحمن الرحيم ؟ فقال : إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك . فقلت : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في النعلين ، قال : نعم } قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر .

فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات قال : وكان صيتا يملأ صوته الجامع ، فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم : يجهر وقال بعضهم : يخفت . ولكنه لا يخفى عليك أن هذه الأحاديث التي استدل بها القائلون بالجهر منها ما لا يدل على المطلوب وهو ما كان فيه ذكر أنها آية من الفاتحة أو ذكر القراءة لها أو ذكر الأمر بقراءتها من دون تقييد بالجهر في الصلاة لأنه لا ملازمة بين ذلك وبين المطلوب وهو الجهر بها في الصلاة . وكذا ما كان مقيدا بالجهر بها دون ذكر الصلاة لأنه لا نزاع في الجهر بها خارج الصلاة . فإن قلت : أما ذكر أنها آية ، أو ذكر الأمر بقراءتها بدون تقييد بالجهر فعدم الاستلزام مسلم ، وأما ذكر قراءته صلى الله عليه وسلم في الصلاة لها فالظاهر أنه يستلزم الجهر لأن الطريق إلى نقله إنما هي السماع ، وما يسمع جهر وهو المطلوب . قلت : يمكن أن تكون الطريق إلى ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بها في الصلاة فلا ملازمة ، والذي يدل على المطلوب منها هو ما صرح فيه بالجهر بها في الصلاة وهي أحاديث لا ينتهض الاحتجاج بها كما عرفت ، ولهذا قال الدارقطني إنه لم يصح في الجهر بها حديث

ولو سلمنا أن ذكر القراءة في الصلاة يستلزم الجهر بها لم يثبت لذلك مطلوب القائلين بالجهر لأن أنهض الأحاديث الواردة بذلك حديث أبي هريرة المتقدم ، وقد تعقب باحتمال أن يكون أبو هريرة أشبههم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها على أنه قد رواه جماعة عن نعيم عن أبي هريرة بدون ذكر البسملة كما قال الحافظ في الفتح . وقد جمع القرطبي بما حاصله أن المشركين كانوا يحضرون المسجد فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : إنه يذكر رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم ونزلت : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } ، قال الحكيم الترمذي : فبقي ذلك إلى يومنا هذا . [ ص: 237 ] على ذكر الرسم وإن زالت العلة ، وقد روى هذا الحديث الطبراني في الكبير والأوسط

وعن سعيد بن جبير قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان المشركون يهزءون بمكاء وتصدية ويقولون : محمد يذكر إله اليمامة . وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمن فأنزل الله : { ولا تجهر بصلاتك } فتسمع المشركين فيهزءوا بك { ولا تخافت بها } عن أصحابك فلا تسمعهم } رواه جبير عن ابن عباس ذكره النيسابوري في التيسير وهذا جمع حسن إن صح أن هذا كان السبب في ترك الجهر . وقد قال في مجمع الزوائد : إن رجاله موثقون . وقد ذكر ابن القيم في الهدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفيها أكثر مما جهر بها ، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائما في كل يوم وليلة خمس مرات أبدا حضرا وسفرا ، ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الأعصار الفاضلة هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية فصحيح تلك الأحاديث غير صريح ، وصريحها غير صحيح انتهى .

وحجج بقية الأقوال التي فيها التفصيل في الجهر والإسرار وجواز الأمرين مأخوذة من هذه الأدلة فلا نطول بذكرها . وأما أدلة المثبتين لقرآنية البسملة والنافين لقرآنيتها فيأتي ذكر طرف منها في الباب الذي بعد هذا . وهذه المسألة طويلة الذيل ، وقد أفردها جماعة من أكابر العلماء بتصانيف مستقلة ومن آخر ما وقع رسالة جمعتها في أيام الطلب مشتملة على نظم ونثر أجبت بها على سؤال ورد ، وأجاب عنه جماعة من علماء العصر فلنقتصر في هذا الشرح على هذا المقدار وإن كان بالنسبة إلى ما في المسألة من التطويل نزرا يسيرا ولكنه لا يقصر عن إفادة المنصف ما هو الصواب في المسألة . وأكثر ما في المقام الاختلاف في مستحب أو مسنون فليس شيء من الجهر وتركه يقدح في الصلاة ببطلان بالإجماع فلا يهولنك تعظيم جماعة من العلماء لشأن هذه المسألة والخلاف فيها ولقد بالغ بعضهم حتى عدها من مسائل الاعتقاد

686 - ( وعن عبد الله بن مغفل قال : { سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : يا بني إياك والحدث ، قال : ولم أر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كان أبغض إليه حدثا في الإسلام منه ، فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها إذا أنت قرأت فقل الحمد لله رب العالمين } . رواه الخمسة إلا أبا داود ) . [ ص: 238 ] الحديث حسنه الترمذي وقد تفرد به الجريري وقد قيل إنه اختلط بآخره ، وقد توبع عليه الجريري كما سيأتي وهو أيضا من أفراد ابن عبد الله بن مغفل وعليه مداره وذكر أن اسمه يزيد وهو مجهول لا يعرف ما روي عنه إلا أبو نعامة ، وقد رواه معمر عن الجريري ، ورواه إسماعيل بن مسعود عن خالد بن عبد الله الواسطي عن عثمان بن غياث عن أبي نعامة عن ابن عبد الله بن مغفل ولم يذكر الجريري وإسماعيل هو الجحدري قال أبو حاتم : صدوق . وروى عنه النسائي ، فعثمان بن غياث متابع للجريري وقد وثق عثمان أحمد ويحيى وروى له البخاري ومسلم . وقال ابن خزيمة : هذا الحديث غير صحيح وقال الخطيب وغيره : ضعيف ، قال النووي : ولا يرد على هؤلاء الحفاظ قول الترمذي : إنه حسن ا هـ .

وسبب تضعيف هذا الحديث ما ذكرناه من جهالة ابن عبد الله بن مغفل والمجهول لا تقوم به حجة . قال أبو الفتح اليعمري : والحديث عندي ليس معللا بغير الجهالة في ابن عبد الله بن مغفل وهي جهالة حالية لا عينية للعلم بوجوده فقد كان لعبد الله بن المغفل سبعة أولاد سمى هذا منهم يزيد وما رمي بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا أبو نعامة فحكمه حكم المستور . قال : وليس في رواة هذا الخبر من يتهم بكذب فهو جاري على رسم الحسن عنده . وأما تعليله بجهالة المذكور فما أراه يخرجه عن رسم الحسن عند الترمذي ، ولا غيره . وأما قول من قال غير صحيح فكل حسن كذلك

والحديث استدل به القائلون بترك قراءة البسملة في الصلاة ، والقائلون بترك الجهر بها . وقد تقدم الكلام على ذلك . قال المصنف رحمه الله: ومعنى قوله : " لا تقلها " وقوله : " لا يقرءونها " أو لا يذكرونها ولا يستفتحون بها أي جهرا بدليل قوله في رواية تقدمت " ولا يجهرون بها " وذلك يدل على قراءتهم لها سرا انتهى . وقد قدمنا الكلام على ذلك في شرح الحديث الذي قبل هذا

687 - ( وعن قتادة قال : { سئل أنس كيف كان قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ، ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم } ، رواه البخاري ) . الحديث أخرجه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بدون ذكر البسملة وهو يدل على مشروعية قراءة البسملة وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمد قراءته في البسملة وغيرها . وقد استدل به القائلون باستحباب الجهر بقراءة البسملة في الصلاة لأن كون قراءته كانت على الصفة التي وصفها أنس تستلزم سماع أنس لها منه صلى الله عليه وسلم وما سمع مجهور به ولم يقتصر أنس على هذه الصفة على القراءة الواقعة منه صلى الله عليه وسلم خارج الصلاة فظاهره أنه أخبر عن مطلق [ ص: 239 ] قراءته صلى الله عليه وسلم ولفظ " كان " مشعر بالاستمرار كما تقرر في الأصول فيستفاد منه عموم الأزمان وكونه من لفظ الراوي لا يقدح في ذلك لأن الغرض أنه عدل عارف

688 - ( وروى ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن { أم سلمة أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان يقطع قراءته آية آية { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } } . رواه أحمد وأبو داود ) . الحديث أخرجه أيضا الترمذي في القراءة ولم يذكر التسمية ، وقال : غريب وليس إسناده بمتصل ، وقد أعل الطحاوي الخبر بالانقطاع فقال : لم يسمعه ابن أبي مليكة من أم سلمة . واستدل على ذلك برواية الليث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة . قال الحافظ : وهذا الذي أعل به ليس بعلة . فقد رواه الترمذي من طريق ابن أبي مليكة عن أم سلمة بلا واسطة وصححه ورجحه على الإسناد الذي فيه يعلى بن مملك انتهى وقد عرفت أن الترمذي قال : إنه غريب وليس بمتصل في باب القراءة . ورواه في باب القراءة في باب فضائل القرآن ، وصححه هنالك بعد أن رواه عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك ، فلعل التصحيح لأجل الاتصال كما يدل عليه قوله في باب القراءة : وليس إسناده بمتصل . وأخرجه الدارقطني عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقطعها آية آية وعدها عد الأعراب وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية ولم يعد عليهم } قال اليعمري : رواته موثقون وكذا رواه من هذا الوجه ابن خزيمة والحاكم وفي إسناده عمر بن هارون البلخي . قال الحافظ : هو ضعيف انتهى . ولكنه قد وثق فقول اليعمري رواته موثقون صحيح . والحديث يدل على أن البسملة آية . وقد استدل به من قال باستحباب الجهر بالبسملة في الصلاة لما ذكرناه في شرح الحديث الذي قبله . وقد تقدم بسط الكلام على ذلك في أول الباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية