صفحة جزء
أبواب صلاة المسافر

باب اختيار القصر وجواز الإتمام

1155 - ( عن { ابن عمر قال : صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك } . متفق عليه ) .

1156 - ( وعن يعلى بن أمية قال : { قلت لعمر بن الخطاب { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فقد أمن الناس ، قال : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته } رواه الجماعة إلا البخاري ) .


قوله : ( وكان لا يزيد في السفر على ركعتين ) فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لازم القصر في السفر ولم يصل فيه تماما . ولفظ الحديث في صحيح مسلم : { صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل ، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل ، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل ، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل } وظاهر هذه الرواية ، وكذا [ ص: 239 ] الرواية التي ذكرها المصنف أن عثمان لم يصل في السفر تماما

وفي رواية لمسلم عن ابن عمر أنه قال : " ومع عثمان صدرا من خلافته ثم أتم " وفي رواية " ثمان سنين أو ست سنين " قال النووي : وهذا هو المشهور أن عثمان أتم بعد ست سنين من خلافته . وتأول العلماء هذه الرواية أن عثمان لم يزد على ركعتين حتى قبضه الله في غير منى ، والرواية المشهورة بإتمام عثمان بعد صدر من خلافته محمولة على الإتمام بمنى خاصة

وقد صرح في رواية بأن إتمام عثمان كان بمنى . وفي البخاري ومسلم { أن عبد الرحمن بن يزيد قال : صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات ، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعتان متقبلتان ، } قوله : ( عجبت مما عجبت منه ) وفي رواية لمسلم " عجيب ما عجبت منه " والرواية الأولى هي المشهورة المعروفة كما قال النووي

قوله : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ) فيه جواز قول القائل : تصدق الله علينا ، واللهم تصدق علينا ، وقد كرهه بعض السلف ، قال النووي : وهو غلط ظاهر . واعلم أنه قد اختلف أهل العلم هل القصر واجب أم رخصة والتمام أفضل ؟ ، فذهب إلى الأول الحنفية والهادوية ، وروي عن علي وعمر ونسبه النووي إلى كثير من أهل العلم ، قال الخطابي في المعالم : كان مذهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو الواجب في السفر ، هو قول علي وعمر وابن عمر وابن عباس ، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن

وقال حماد بن أبي سليمان : يعيد من يصلي في السفر أربعا . وقال مالك : يعيد ما دام في الوقت ا هـ . وإلى الثاني الشافعي ومالك وأحمد . قال النووي : وأكثر العلماء ، وروي عن عائشة وعثمان وابن عباس : قال ابن المنذر : وقد أجمعوا على أنه لا يقصر في الصبح ولا في المغرب . قال النووي : ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح .

وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر ، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة . وعن بعضهم كونه سفر طاعة . احتج القائلون بوجوب القصر بحجج : الأولى ملازمته صلى الله عليه وسلم للقصر في جميع أسفاره كما في حديث ابن عمر المذكور في الباب ، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتم الرباعية . في السفر ألبتة كما قال ابن القيم

وأما حديث عائشة الآتي المشتمل على أنه صلى الله عليه وسلم أتم الصلاة في السفر فسيأتي أنه لم يصح . ويجاب عن هذه الحجة بأن مجرد الملازمة لا يدل على الوجوب كما ذهب إلى ذلك جمهور أئمة الأصول وغيرهم .

الحجة الثانية حديث عائشة المتفق عليه بألفاظ منها : { فرضت الصلاة ركعتين ، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر } وهو [ ص: 240 ] دليل ناهض على الوجوب ، لأن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها ، كما أنه لا يجوز الزيادة على أربع في الحضر . وقد أجيب عن هذه الحجة بأجوبة منها : أن الحديث من قول عائشة غير مرفوع ، وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة ، وأنه لو كان ثابتا لنقل تواترا . وقد قدمنا الجواب عن هذه الأجوبة في أول كتاب الصلاة في الموضع الذي ذكر فيه المصنف حديث عائشة .

ومنها أن المراد بقولها : " فرضت " أي قدرت ، وهو خلاف الظاهر . ومنها ما قال النووي أن المراد بقولها : " فرضت " يعني لمن أراد الاقتصار عليهما ، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم ، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار ، وهو تأويل متعسف لا يعول على مثله . ومنها المعارضة لحديث عائشة بأدلتهم التي تمسكوا بها في عدم وجوب القصر ، وسيأتي ويأتي الجواب عنها .

الحجة الثالثة ما في صحيح مسلم عن ابن عباس أنه قال : " إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم على المسافر ركعتين ، وعلى المقيم أربعا ، وفي الخوف ركعة " فهذا الصحابي الجليل قد حكى عن الله عز وجل أنه فرض صلاة السفر ركعتين ، وهو أتقى لله وأخشى من أن يحكي أن الله فرض ذلك بلا برهان .

والحجة الرابعة حديث عمر عند النسائي وغيره { صلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفجر ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم } وسيأتي ، وهو يدل على أن صلاة السفر مفروضة كذلك من أول الأمر وأنها لم تكن أربعا ثم قصرت . وقوله : " على لسان محمد " تصريح بثبوت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم .

الحجة الخامسة حديث ابن عمر الآتي بلفظ : { أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر . } واحتج القائلون بأن القصر رخصة ، والتمام أفضل بحجج : الأولى منها قول الله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ونفي الجناح لا يدل على العزيمة بل على الرخصة ، وعلى أن الأصل التمام ، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه . وأجيب بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف لا في قصر العدد لما علم من تقدم شرعية قصر العدد . قال في الهدي - وما أحسن ما قال - : وقد يقال : إن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين ، وقيد ذلك بأمرين : الضرب في الأرض ، والخوف ، فإذا وجد الأمران أبيح القصران ، فيصلون صلاة خوف مقصورا عددها وأركانها وإن انتفى الأمران وكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة ، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده ، فإن وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد ، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية ، وإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفيت الأركان وصليت صلاة أمن ، وهذا أيضا نوع قصر وليس بالقصر المطلق ، وقد تسمى [ ص: 241 ] هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد ، وقد تسمى تامة باعتبار تمام أركانها وإن لم تدخل في الآية ا هـ .

الحجة الثانية قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب " صدقة تصدق الله بها عليكم " فإن الظاهر من قوله صدقة أن القصر رخصة فقط . وأجيب بأن الأمر بقبولها يدل على أنه لا محيص عنها وهو المطلوب .

الحجة الثالثة ما في صحيح مسلم وغيره { أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمنهم القاصر ومنهم المتم ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض } ، كذا قال النووي في شرح مسلم ، ولم نجد في صحيح مسلم قوله : " فمنهم القاصر ومنهم المتم " وليس فيه إلا أحاديث الصوم والإفطار ، وإذا ثبت ذلك فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وقررهم عليه ، وقد نادت أقواله وأفعاله بخلاف ذلك ، وقد تقرر أن إجماع الصحابة في عصره صلى الله عليه وسلم ليس بحجة ، والخلاف بينهم في ذلك مشهور بعد موته .

وقد أنكر جماعة منهم علي عثمان لما أتم بمنى ، وتأولوا له تأويلات : قال ابن القيم أحسنها أنه كان قد تأهل بمنى ، والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه ، أو كان له به زوجة أتم . وقد روى أحمد { عن عثمان أنه قال : أيها الناس لما قدمت منى تأهلت بها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا تأهل رجل ببلد فليصل به صلاة مقيم } ورواه أيضا عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده أيضا وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم ، وسيأتي الكلام عليه .

الحجة الرابعة حديث عائشة الآتي وسيأتي الجواب عنه ، وهذا النزاع في وجوب القصر وعدمه . وقد لاح من مجموع ما ذكرنا رجحان القول بالوجوب .

وأما دعوى أن التمام أفضل فمدفوعة بملازمته صلى الله عليه وسلم للقصر في جميع أسفاره وعدم صدور التمام عنه كما تقدم ، ويبعد أن يلازم صلى الله عليه وسلم طول عمره المفضول ويدع الأفضل .

التالي السابق


الخدمات العلمية