صفحة جزء
باب الجمع بأذان وإقامتين من غير تطوع بينهما

1176 - ( عن ابن عمر رضي الله عنهما : { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا كل واحدة منهما بإقامة ولم يسبح بينهما ، ولا على أثر واحدة منهما } . رواه البخاري والنسائي ) .

1177 - ( وعن جابر رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلاتين بعرفة بأذان واحد وإقامتين ، وأتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر . } مختصر لأحمد ومسلم والنسائي ) .

1178 - ( وعن أسامة رضي الله عنه : { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا } . متفق عليه .

وفي لفظ : ركب حتى [ ص: 261 ] جئنا المزدلفة فأقام المغرب ، ثم أناخ الناس في منازلهم ، ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا . رواه أحمد ومسلم .

وفي لفظ : { أتى المزدلفة فصلوا المغرب ، ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء } . رواه أحمد ، وهو حجة في جواز التفريق بين المجموعتين في وقت الثانية ) .


قوله : ( صلى المغرب والعشاء ) في رواية للبخاري { جمع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء } وفي رواية له { جمع بين المغرب والعشاء } قوله : ( بإقامة ) لم يذكر الأذان وهو ثابت في حديث جابر المذكور بعده . وفي حديث عبد الله بن مسعود عند البخاري بلفظ { فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك ، فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى المغرب } الحديث . قوله : ( ولم يسبح بينهما ) أي لم يتنفل بين صلاة المغرب والعشاء ولا عقب كل واحدة منهما .

قال في الفتح : ويستفاد منه أنه ترك النفل عقب المغرب وعقب العشاء ، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرح بأنه لم يتنفل بينهما ، بخلاف العشاء فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها ، لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل . ومن ثم قال الفقهاء : تؤخر سنة العشاءين عنهما .

ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة لأنهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة ، ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما . ويعكر على نقل الاتفاق ما في البخاري عن ابن مسعود { أنه صلى المغرب بالمزدلفة وصلى بعدها ركعتين ، ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أمر بالأذان والإقامة ثم صلى العشاء } . وقد اختلف أهل العلم في صلاة النافلة في مطلق السفر . قال النووي : قد اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر . واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة ، فتركها ابن عمر وآخرون ، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور . ودليلهم الأحاديث العامة الواردة في ندب مطلق الرواتب ، وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى في يوم الفتح وركعتي الصبح حين ناموا حتى طلعت الشمس ، وأحاديث أخر صحيحة ذكرها أصحاب السنن ، والقياس على النوافل المطلقة .

وأما في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال : { صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر } وفي رواية { صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك } فقال النووي : لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر ، فإن النافلة في البيت أفضل ، ولعله تركها في بعض الأوقات تنبيها على جواز تركها .

وأما ما يحتج به القائلون بتركها من أنها لو شرعت لكان إتمام الفريضة أولى . فجوابه أن الفريضة متحتمة ، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها . وأما النافلة فهي إلى خيرة المكلف ، فالرفق به أن تكون [ ص: 262 ] مشروعة ، ويتخير ، إن شاء فعلها وحصل ثوابها ، وإن شاء تركها ولا شيء عليه .

وقال ابن دقيق العيد : إن قول ابن عمر " فكان لا يزيد في السفر على ركعتين " يحتمل أنه كان لا يزيد في عدد ركعات الفرض ، ويحتمل أنه كان لا يزيد نفلا ، ويحتمل أعم من ذلك . قال في الفتح : ويدل على الثاني رواية مسلم بلفظ " صحبت ابن عمر في طريق مكة فصلى لنا الظهر ركعتين ، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلسنا معه ، فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قياما ، فقال : ما يصنع هؤلاء ؟ قلت : يسبحون ، قال : لو كنت مسبحا لأتممت " ثم ذكر الحديث

قال ابن القيم في الهدي : وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره الاقتصار على الفرض ، ولم يحفظ عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها إلا ما كان من سنة الوتر والفجر ، فإنه لم يكن يدعها حضرا ولا سفرا انتهى . وتعقبه الحافظ بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث { البراء بن عازب قال : سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفرا ، فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر } قال : وكأنه لم يثبت عنده ، وقد استغربه الترمذي ، ونقل عن البخاري أنه رآه حسنا .

وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر انتهى . وقد ذكر ابن القيم هذا الحديث الذي تعقبه به الحافظ في الهدي في هذا البحث وأجاب عنه وذكر حديث عائشة " أن { النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها } وأجاب عنه . واعلم أنه لا بد من حمل قول ابن عمر : فلم أره يسبح ، على صلاة السنة ، وإلا فقد صح عنه أنه كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه .

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به } وفي الصحيحين { عن عامر بن ربيعة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته } قال في الهدي : وقد سئل الإمام أحمد عن التطوع في السفر فقال : أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس .

قال : وروي عن الحسن أنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها . قال : وروي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وأبي ذر . قوله : ( بأذان واحد وإقامتين ) فيه أن السنة في الجمع بين الصلاتين الاقتصار على أذان واحد ، والإقامة لكل واحدة من الصلاتين . وقد أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه أمر بالأذان والإقامة لكل صلاة من الصلاتين المجموعتين بمزدلفة .

قال ابن حزم : لم نجده مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو ثبت لقلت به . ثم أخرج من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق هذا الحديث . قال أبو إسحاق : فذكرته لأبي جعفر بن محمد بن علي فقال : أما نحن أهل البيت [ ص: 263 ] فهكذا نصنع قال ابن حزم : وقد روي عن عمر من فعله وأخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه ، ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم . قال الحافظ : ولا يخفى تكلفه ، ولو تأتى له ذلك في حق عمر لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجتهم لم يتأت له في حق ابن مسعود . وقد ذهب إلى أن المشروع أذان واحد في الجمع وإقامة لكل صلاة الشافعي في القديم ، وهو مروي عن أحمد وابن حزم وابن الماجشون ، وقواه الطحاوي وإليه ذهبت الهادوية .

وقال الشافعي في الجديد والثوري وهو مروي عن أحمد : إنه يجمع بين الصلاتين بإقامتين فقط ، وتمسك الأولون بحديث جابر المذكور في الباب ، وتمسك الآخرون بحديث أسامة المذكور في الباب أيضا ، لأنه اقتصر فيه على ذكر الإقامة لكل واحدة من الصلاتين . والحق ما قاله الأولون لأن حديث جابر مشتمل على زيادة الأذان وهي زيادة غير منافية فيتعين قبولها .

قوله : ( ثم أناخ كل إنسان بعيره ) فيه جواز الفصل بين الصلاتين المجموعتين بمثل هذا ، وظاهر قوله : " ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا " المنافاة لقوله في الرواية الأخرى : " ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء " فإن أمكن الجمع إما بأنه حل بعضهم قبل صلاة العشاء وبعضهم بعدها أو بغير ذلك فذاك ، وإن لم يمكن فالرواية الأولى أرجح لكونها في صحيح مسلم ، ولم يرجحها أيضا الاقتصار في الرواية المتفق عليها على مجرد الإناخة فقط .

التالي السابق


الخدمات العلمية