قوله تعالى : 
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين 
" ما " صلة فيها معنى التأكيد ، أي فبرحمة ; كقوله : 
عما قليل فبما نقضهم ميثاقهم جند ما هنالك مهزوم   . وليست بزائدة على الإطلاق ، وإنما أطلق عليها 
 nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه  معنى الزيادة من حيث زال عملها . 
ابن كيسان    : " ما " نكرة في موضع جر بالباء ورحمة بدل منها . ومعنى الآية : أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم 
أحد  ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه . وقيل : " ما " استفهام . والمعنى : فبأي   
[ ص: 234 ] رحمة من الله لنت لهم ; فهو تعجيب . وفيه بعد ; لأنه لو كان كذلك لكان " فبم " بغير ألف . 
لنت من لان يلين لينا وليانا بالفتح . والفظ الغليظ الجافي . فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ . والأنثى فظة والجمع أفظاظ . وفي 
صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ; وأنشد 
المفضل  في المذكر : 
وليس بفظ في الأداني والأولى يؤمون جدواه ولكنه سهل     وفظ على أعدائه يحذرونه 
فسطوته حتف ونائله جزل 
وقال آخر في المؤنث : 
أموت من الضر في منزلي     وغيري يموت من الكظه 
ودنيا تجود على الجاهلي     ن وهي على ذي النهى فظه 
وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه ، وقلة الانفعال في الرغائب ، وقلة الإشفاق والرحمة ، ومن ذلك قول الشاعر : 
يبكى علينا ولا نبكي على أحد     لنحن أغلظ أكبادا من الإبل 
ومعنى 
لانفضوا لتفرقوا ; فضضتهم فانفضوا ، أي فرقتهم فتفرقوا ; ومن ذلك قول 
أبي النجم  يصف إبلا : 
مستعجلات القيض غير جرد     ينفض عنهن الحصى بالصمد 
وأصل الفض الكسر ; ومنه قولهم : لا يفضض الله فاك . والمعنى : يا 
محمد  لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم . 
قوله تعالى : فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فيه ثمان مسائل : الأولى : قال العلماء : أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ ; وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة ; فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في   
[ ص: 235 ] الأمور . قال أهل اللغة : الاستشارة مأخوذة من قول العرب : شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره . ويقال للموضع الذي تركض فيه : مشوار . وقد يكون من قولهم : شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه ، قال 
عدي بن زيد    : 
في سماع يأذن الشيخ له     وحديث مثل ماذي مشار 
الثانية : قال 
ابن عطية    : 
والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام   ; من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب . هذا ما لا خلاف فيه . وقد مدح الله المؤمنين بقوله : 
وأمرهم شورى بينهم   . قال أعرابي : ما غبنت قط حتى يغبن قومي ; قيل : وكيف ذلك ؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم . وقال 
ابن خويز منداد    : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين ، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها . وكان يقال : ما ندم من استشار . وكان يقال : من أعجب برأيه ضل . 
الثالثة : قوله تعالى : 
وشاورهم في الأمر يدل على جواز 
الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي   ; فإن الله أذن لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك . واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه ; فقالت طائفة : ذلك في مكائد الحروب ، وعند لقاء العدو ، وتطييبا لنفوسهم ، ورفعا لأقدارهم ، وتألفا على دينهم ، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه . روي هذا عن 
قتادة  والربيع   nindex.php?page=showalam&ids=12563وابن إسحاق   nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي    . قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي    : هو كقوله ( والبكر تستأمر ) تطيبا لقلبها ; لا أنه واجب . وقال 
مقاتل  وقتادة  والربيع    : كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم : فأمر الله تعالى ; نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر : فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم ، وأطيب لنفوسهم . فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم . وقال آخرون : ذلك فيما لم يأته فيه وحي . روي ذلك عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري  والضحاك  قالا : ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم ، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل ، ولتقتدي به أمته من بعده . وفي قراءة 
ابن عباس    : " وشاورهم في بعض الأمر " ولقد أحسن القائل : 
شاور صديقك في الخفي المشكل     واقبل نصيحة ناصح متفضل 
 [ ص: 236 ] فالله قد أوصى بذاك نبيه     في قوله : ( شاورهم ) و ( توكل ) 
جاء في مصنف 
أبي داود  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=831974المستشار مؤتمن   . قال العلماء : وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا ، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل . قال 
الحسن    : ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله   . فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه ; قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي  وغيره . 
الخامسة : وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير . قال : 
شاور صديقك في الخفي المشكل 
وقد تقدم . وقال آخر : 
وإن باب أمر عليك التوى     فشاور لبيبا ولا تعصه 
في أبيات . والشورى بركة . وقال عليه السلام : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=3500078ما ندم من استشار ولا خاب من استخار   . وروى 
 nindex.php?page=showalam&ids=31سهل بن سعد الساعدي  عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 
ما شقي قط عبد بمشورة وما   [ ص: 237 ] سعد باستغناء رأي   . وقال بعضهم : شاور من جرب الأمور ; فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا . وقد جعل 
عمر بن الخطاب    - رضي الله عنه - الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى . قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري    : وكانت الأئمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري    : ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة ، ومن يخشى الله تعالى   . وقال 
الحسن    : والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم   . وروي عن 
علي بن أبي طالب    - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : 
ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم   . 
السادسة : والشورى مبنية على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه ، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب ; وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية . 
السابعة : قوله تعالى : 
فإذا عزمت فتوكل على الله قال 
قتادة    : أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله ، لا على مشاورتهم . والعزم هو الأمر المروى المنقح ، وليس ركوب الرأي دون روية عزما ، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب ; كما قال : 
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه     ونكب عن ذكر العواقب جانبا 
ولم يستشر في رأيه غير نفسه     ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا 
وقال 
النقاش    : العزم والحزم واحد ، والحاء مبدلة من العين . قال 
ابن عطية    : وهذا خطأ ;   
[ ص: 238 ] فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه . والعزم قصد الإمضاء ; والله تعالى يقول : 
وشاورهم في الأمر فإذا عزمت   . فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم . والعرب تقول : قد أحزم لو أعزم . وقرأ 
جعفر الصادق   nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد    : " فإذا عزمت " بضم التاء . نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه ; كما قال : 
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى   . ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك فتوكل على الله . والباقون بفتح التاء . قال 
المهلب    : وامتثل هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر ربه فقال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=831975لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله   . أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف ; لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة . فلبسه لأمته - صلى الله عليه وسلم - حين أشار عليه بالخروج يوم 
أحد  من أكرمه الله بالشهادة فيه ، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته 
بدر    : يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا ; دال على العزيمة . وكان - صلى الله عليه وسلم - أشار بالقعود ، وكذلك 
عبد الله بن أبي  أشار بذلك وقال : أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس ، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس ، وإن جاءونا إلى 
المدينة  قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام ، فوالله ما حاربنا قط عدو في هذه 
المدينة  إلا غلبناه ، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا . وأبى هذا الرأي من ذكرنا ، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب . فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة ، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه ، فندم أولئك القوم وقالوا : أكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا : يا رسول الله ، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=831976لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل   . 
الثامنة : قوله تعالى : 
فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين التوكل : الاعتماد على الله مع إظهار العجز ، والاسم التكلان . يقال منه : اتكلت عليه في أمري ، وأصله : " اوتكلت " قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال . ويقال : وكلته بأمري توكيلا ، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها . 
واختلف العلماء في التوكل ; فقالت طائفة من 
المتصوفة    : لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره ، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى .   
[ ص: 239 ] وقال عامة الفقهاء : ما تقدم ذكره عند قوله تعالى : 
وعلى الله فليتوكل المؤمنون   . وهو الصحيح كما بيناه . وقد خاف 
موسى  وهارون  بإخبار الله تعالى عنهما في قوله 
لا تخافا   . وقال : 
فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف وأخبر عن 
إبراهيم  بقوله : 
فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف   . فإذا كان 
الخليل  وموسى  الكليم قد خافا - وحسبك بهما - فغيرهما أولى . وسيأتي بيان هذا المعنى .