صفحة جزء
قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما

فيه مسألتان :

الأولى : لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر ، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر ، ودل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر . وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء ، وأن اللمسة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق وقوله الحق ، لا أنه يجب عليه ذلك . ونظير الكلام في هذا ما تقدم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى : إنما التوبة على الله ، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض . روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر . وروى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال : والذي نفسي بيده ثلاث مرات ، ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزينا ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس [ ص: 139 ] ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفق ثم تلا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم . فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعا كالنظر وشبهه . وبينت السنة أن المراد ب تجتنبوا ليس كل الاجتناب لجميع الكبائر . والله أعلم . وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء والمشيئة ثابتة . ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة . ولا صغيرة عندنا . قال القشيري عبد الرحيم : والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعا من بعض ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .

قلت : وأيضا فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم : - لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر من عصيت - كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر ، وعلى هذا النحو يخرج كلام القاضي أبي بكر بن الطيب والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم ؛ قالوا : وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر ، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى ، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر ، لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء واحتجوا بقراءة من قرأ " إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه " على التوحيد ؛ وكبير الإثم الشرك . قالوا : وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر . والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . واحتجوا بما رواه مسلم وغيره عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل : يا رسول الله ، وإن كان شيئا يسيرا ؟ قال : وإن كان قضيبا من أراك . فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير . وقال ابن عباس : الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية ؛ وتصديقه قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه . وقال طاوس : قيل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب . وقال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس الكبائر [ ص: 140 ] سبع ؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع ؛ غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار . وروي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائر أربعة : اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، والشرك بالله ؛ دل عليها القرآن .

وروي عن ابن عمر : هي تسع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورمي المحصنة ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، والسحر ، والإلحاد في البيت الحرام . ومن الكبائر عند العلماء : القمار والسرقة وشرب الخمر وسب السلف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه - بأن يسب رجلا فيسب ذلك الرجل أبويه - والسعي في الأرض فسادا - ؛ إلى غير ذلك مما يكثر تعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن ، وفي أحاديث خرجها الأئمة ، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملة وافرة .

وقد اختلف الناس في تعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها ؛ والذي أقول : إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صحاح وحسان لم يقصد بها الحصر ، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره ، فالشرك أكبر ذلك كله ، وهو الذي لا يغفر لنص الله تعالى على ذلك ، وبعده اليأس من رحمة الله ؛ لأن فيه تكذيب القرآن ؛ إذ يقول وقوله الحق : ورحمتي وسعت كل شيء وهو يقول : لا يغفر له ؛ فقد حجر واسعا . هذا إذا كان معتقدا لذلك ؛ ولذلك قال الله تعالى : إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . وبعده القنوط ؛ قال الله تعالى : ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتكل على رحمة الله من غير عمل ؛ قال الله تعالى : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . وقال تعالى : وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين . وبعده القتل ؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدام الوجود ، واللواط فيه قطع النسل ، والزنى فيه اختلاط الأنساب بالمياه ، والخمر فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف ، وترك الصلاة والأذان فيه ترك إظهار شعائر الإسلام ، وشهادة الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال ، إلى غير ذلك مما هو بين الضرر ؛ فكل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده ، أو عظم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة . فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه ، والله أعلم .

[ ص: 141 ] الثانية : قوله تعالى : وندخلكم مدخلا كريما قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين " مدخلا " بضم الميم ، فيحتمل أن يكون مصدرا ، أي إدخالا ، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا . ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل ؛ التقدير وندخلكم فتدخلون مدخلا ، ودل الكلام عليه . ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول به ، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة . وقال أبو سعيد بن الأعرابي : سمعت أبا داود السجستاني يقول : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : المسلمون كلهم في الجنة ؛ فقلت له : وكيف ؟ قال : يقول الله عز وجل : إن تجتبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما يعني الجنة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي . فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين .

وقال علماؤنا : الكبائر عند أهل السنة تغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدم . وقد يغفر لمن مات عليها من المسلمين كما قال تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والمراد بذلك من مات على الذنوب ؛ فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى ؛ إذ التائب من الشرك أيضا مغفور له . وروي عن ابن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعا ، قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر الآية ، وقوله تعالى : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه الآية ، وقوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها ، وقوله تعالى : والذين آمنوا بالله ورسله . وقال ابن عباس : ثمان آيات في سورة النساء ، هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : يريد الله ليبين لكم ، والله يريد أن يتوب عليكم ، يريد الله أن يخفف عنكم ، إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، [ ص: 142 ] الآية ، إن الله لا يغفر أن يشرك به ، إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ، ما يفعل الله بعذابكم الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية