قوله تعالى : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما 
فيه أربع مسائل : 
الأولى : في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه ، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم ، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر 
بني أبيرق    ! وكانوا ثلاثة إخوة : 
بشر  وبشير   nindex.php?page=showalam&ids=16875ومبشر  ، 
وأسير بن عروة  ابن عم لهم ؛ نقبوا مشربة 
لرفاعة بن زيد  في الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما ، فعثر على ذلك . وقيل إن السارق 
بشير  وحده ، وكان يكنى 
أبا طعمة  أخذ درعا ؛ قيل : كان الدرع في جراب فيه دقيق ، فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره ، فجاء ابن أخي 
رفاعة  واسمه 
 nindex.php?page=showalam&ids=361قتادة بن النعمان  يشكوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء 
أسير بن عروة  إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=838830يا رسول الله ، إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بينة ؛ وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتادة  ورفاعة  ؛ فأنزل الله تعالى : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم الآية   . وأنزل الله تعالى : 
ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا وكان البريء الذي رموه بالسرقة 
لبيد بن سهل    . وقيل : 
زيد بن السمين  وقيل : رجل من 
الأنصار    . فلما أنزل الله ما أنزل ، هرب 
ابن أبيرق  السارق إلى 
مكة  ، ونزل على 
سلافة بنت سعد بن شهيد  ؛ فقال فيها 
حسان بن ثابت  بيتا يعرض فيه بها ، وهو : 
وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه     ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتمو 
وفينا نبي عنده الوحي واضعه 
 [ ص: 321 ] فلما بلغها قالت : إنما أهديت لي شعر 
حسان  ؛ وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل ، فهرب إلى 
خيبر  وارتد . ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا . ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه 
الترمذي  وقال : حديث حسن غريب ، لا نعلم أحدا أسنده غير 
 nindex.php?page=showalam&ids=16969محمد بن سلمة الحراني    . وذكره 
الليث   nindex.php?page=showalam&ids=16935والطبري  بألفاظ مختلفة . وذكر قصة موته 
يحيى بن سلام  في تفسيره ، 
والقشيري  كذلك وزاد ذكر الردة . ثم قيل : كان 
زيد بن السمين  ولبيد بن سهل  يهوديين . وقيل : كان 
لبيد  مسلما . وذكره 
المهدوي  ، وأدخله 
أبو عمر  في كتاب الصحابة له ، فدل ذلك على 
إسلامه  عنده . وكان 
بشير  رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحل الشعر غيره ، وكان المسلمون يقولون : والله ما هو إلا شعر الخبيث . فقال شعرا يتنصل فيه ؛ فمنه قوله : 
أوكلما قال الرجال قصيدة     نحلت وقالوا ابن الأبيرق  قالها 
وقال 
الضحاك    : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعا ، فجاءت 
اليهود  شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به ؛ فنزل 
ها أنتم هؤلاء يعني 
اليهود    . والله أعلم . 
الثانية : قوله تعالى : 
بما أراك الله معناه على قوانين الشرع ؛ إما بوحي ونص ، أو بنظر جار على سنن الوحي . وهذا أصل في القياس ، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب ؛ لأن الله تعالى أراه ذلك ، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة ؛ فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما رآه ، ولم يرد رؤية العين هنا ؛ لأن الحكم لا يرى بالعين . وفي الكلام إضمار ، أي بما أراكه الله ، وفيه إضمار آخر ، وامض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم . 
الثالثة : قوله تعالى : 
ولا تكن للخائنين خصيما اسم فاعل ؛ كقولك : جالسته فأنا جليسه ، ولا يكون فعيلا هنا بمعنى مفعول ؛ يدل على ذلك 
ولا تجادل فالخصيم هو المجادل وجمع الخصيم خصماء . وقيل : خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا . فنهى الله عز وجل رسوله عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة . وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز . فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق . ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس ؛ فبين أن مال الكافر محفوظ عليه كمال المسلم ، إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى .  
[ ص: 322 ] المسألة الرابعة : قال العلماء : ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم ؛ فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى : 
ولا تكن للخائنين خصيما وقوله : 
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم   . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين : أحدهما : أنه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله : 
ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا   . والآخر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم ، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره ، فدل على أن القصد لغيره .