1. الرئيسية
  2. تفسير القرطبي
  3. باب معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه "
صفحة جزء
روى مسلم عن أبي بن كعب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أضاة بني غفار ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف ; فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم أتاه الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين ; فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم جاءه الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف ; فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا . وروى الترمذي عنه قال : لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل فقال : يا جبريل إني بعثت إلى أمة أمية منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابا قط فقال لي يا محمد القرآن أنزل على سبعة أحرف . قال هذا : حديث صحيح . وثبت في الأمهات : البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي وغيرها من المصنفات والمسندات قصة عمر مع هشام بن حكيم ، وسيأتي بكماله في آخر الباب مبينا إن شاء الله تعالى .

وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستي ، نذكر منها في هذا الكتاب خمسة أقوال :

الأول - وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب والطبري والطحاوي وغيرهم : أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة ، نحو أقبل وتعال وهلم . قال الطحاوي : وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال اقرأ على حرف ; فقال ميكائيل : استزده ; فقال : اقرأ على حرفين ; فقال ميكائيل : استزده ، حتى بلغ إلى سبعة أحرف ; فقال : اقرأ فكل شاف كاف إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة ; على نحو هلم وتعال وأقبل واذهب وأسرع وعجل . وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ : للذين آمنوا انظرونا [ الحديد : 13 ] : للذين آمنوا أمهلونا ، للذين آمنوا أخرونا ، للذين آمنوا ارقبونا . وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ : كلما أضاء لهم مشوا فيه [ البقرة : 20 ] : مروا فيه ، سعوا فيه ، وفي البخاري ومسلم قال الزهري : إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال ولا حرام .

قال الطحاوي : إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم ، لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم ; فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات ; ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة ، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذ [ ص: 53 ] كان المعنى متفقا ، فكان كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه ، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها . قال ابن عبد البر : فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ، ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف ، وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد .

روى أبو داود عن أبي قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أبي إني أقرئت القرآن فقيل لي على حرف أو حرفين فقال الملك الذي معي قل على حرفين فقيل لي على حرفين أو ثلاثة فقال الملك الذي معي : قل على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال : ليس منها إلا شاف كاف إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب . وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر من كلام ابن مسعود نحوه . قال القاضي ابن الطيب : وإذا ثبتت هذه الرواية - يريد حديث أبي - حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسما لله تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف .

القول الثاني - قال قوم : هي سبع لغات في القرآن من لغات العرب كلها ; يمنها ونزارها ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجهل شيئا منها ، وكان قد أوتي جوامع الكلم ; وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه ، ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن ، فبعضه بلغة قريش ، وبعضه بلغة هذيل ، وبعضه بلغة هوازن ، وبعضه بلغة اليمن . قال الخطابي : على أن في القرآن ما قد قرئ بسبعة أوجه ، وهو قوله : وعبد الطاغوت [ المائدة : 60 ] . وقوله : أرسله معنا غدا يرتع ويلعب [ يوسف : 12 ] وذكرها وجوها ، كأنه يذهب إلى أن بعضه أنزل على سبعة أحرف لا كله . وإلى هذا القول - بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، على سبع لغات - ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام واختاره ابن عطية . قال أبو عبيد : وبعض الأحياء أسعد بها وأكثر حظا فيها من بعض ، وذكر حديث ابن شهاب عن أنس أن عثمان قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف : ما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش ، فإنه نزل بلغتهم . ذكره البخاري وذكر حديث ابن عباس قال : نزل القرآن بلغة الكعبين ; كعب قريش وكعب خزاعة . قيل : وكيف ذلك ؟ قال : لأن الدار واحدة . قال أبو عبيد : يعني أن خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم .

قال القاضي ابن الطيب رضي الله عنه : معنى قول عثمان فإنه نزل بلسان قريش ، يريد معظمه وأكثره ، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره منزل بلغة قريش فقط ، إذ فيه كلمات وحروف هي خلاف لغة قريش ، وقد قال الله تعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا [ الزخرف : 3 ] ولم يقل قرشيا ; وهذا يدل على أنه منزل بجميع لسان العرب ، وليس لأحد أن يقول : أنه أراد قريشا من العرب دون غيرها ، كما أنه ليس له أن يقول : أراد لغة عدنان دون قحطان ، أو ربيعة دون مضر ; لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا .

[ ص: 54 ] وقال ابن عبد البر : قول من قال إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي في الأغلب ، والله أعلم ; لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها ، وقريش لا تهمز . وقال ابن عطية : معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنزل القرآن على سبعة أحرف أي فيه عبارة سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن ، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش ، ومرة بعبارة هذيل ، ومرة بغير ذلك بحسب الأفصح والأوجز في اللفظ ، ألا ترى أن " فطر " معناه عند قريش : ابتدأ فجاءت في القرآن فلم تتجه لابن عباس ; حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما . أنا فطرتها ; قال ابن عباس : ففهمت حينئذ موضع قوله تعالى : فاطر السماوات والأرض [ الأنعام : 14 ] وغيرها . وقال أيضا : ما كنت أدري معنى قوله تعالى : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق [ الأعراف : 89 ] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك ; أي أحاكمك . وكذلك قال عمر بن الخطاب وكان لا يفهم معنى قوله تعالى : أو يأخذهم على تخوف [ النحل : 47 ] أي على تنقص لهم . وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة : والنخل باسقات [ ق : 10 ] ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر إلى غير ذلك من الأمثلة .

القول الثالث : أن هذه اللغات السبع إنما تكون في مضر ; قاله قوم ، واجتمعوا بقول عثمان : نزل القرآن بلغة مضر ، وقالوا : جائز أن يكون منها لقريش ، ومنها لكنانة ، ومنها لأسد ، ومنها لهذيل ، ومنها لتيم ، ومنها لضبة ، ومنها لقيس ; قالوا : هذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب ; وقد كان ابن مسعود يحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر . وأنكر آخرون أن تكون كلها من مضر ، وقالوا : في مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها ، مثل كشكشة قيس وتمتمة تميم ; فأما كشكشة قيس فإنهم يجعلون كاف المؤنث شينا ، فيقولون في جعل ربك تحتك سريا [ مريم : 24 ] : جعل ربش تحتش سريا ; وأما تمتمة تميم فيقولون في الناس : النات ، وفي أكياس : أكيات . قالوا : وهذه لغات يرغب عن القرآن بها ، ولا يحفظ عن السلف فيها شيء .

وقال آخرون : أما إبدال الهمزة عينا وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء ، وقد قرأ به الجلة ، واحتجوا بقراءة ابن مسعود : ليسجننه عتى حين ; ذكرها أبو داود ; وبقول ذي الرمة :


فعيناك عيناها وجيدك جيدها ولونك إلا عنها غير طائل

يريد إلا أنها .

القول الرابع : ما حكاه صاحب الدلائل عن بعض العلماء ، وحكى نحوه القاضي ابن الطيب قال : تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا : منها ما تتغير حركته ، ولا يزول معناه ولا صورته ، مثل : هن أطهر لكم وأطهر ، ويضيق صدري ويضيق . ومنها ما لا تتغير صورته ويتغير [ ص: 55 ] معناه بالإعراب ، مثل : ربنا باعد بين أسفارنا [ سبإ : 19 ] وباعد . ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف ، مثل قوله : ننشزها وننشرها . ومنها ما تتغير صورته ويبقى معناه : كالعهن المنفوش وكالصوف المنفوش . ومنها ما تتغير صورته ومعناه ، مثل : وطلح منضود ، وطلع منضود . ومنها بالتقديم والتأخير كقوله : وجاءت سكرة الموت بالحق وجاءت سكرة الحق بالموت . ومنها بالزيادة والنقصان ، مثل قوله : تسع وتسعون نعجة أنثى ، وقوله : وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ، وقوله : فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم .

القول الخامس : أن المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب الله تعالى ، وهي أمر ونهي ووعد ووعيد وقصص ومجادلة وأمثال . قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأن هذا لا يسمى أحرفا ، وأيضا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حلال ولا في تغيير شيء من المعاني . وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : ولكن ليست هذه هي التي أجاز لهم القراءة بها ، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة ; ومنه قوله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف [ الحج : 11 ] فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل وتحريم وغير ذلك . وقد قيل : إن المراد بقوله عليه السلام : أنزل القرآن على سبعة أحرف القراءات السبع التي قرأ بها القراء السبعة ; لأنها كلها صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ليس بشيء لظهور بطلانه على ما يأتي .

التالي السابق


الخدمات العلمية