صفحة جزء
قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون فيه سبع مسائل :

قرأ عاصم والكسائي عزير ابن الله بتنوين عزير . والمعنى أن " ابنا " على هذا خبر ابتداء عن ( عزير ) ، و " عزير " ينصرف عجميا كان أو عربيا . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو [ ص: 51 ] عمرو وابن عامر ( عزير ابن ) بترك التنوين لاجتماع الساكنين ، ومنه قراءة من قرأ " قل هو الله أحد الله الصمد " . قال أبو علي : وهو كثير في الشعر . وأنشد الطبري في ذلك :


لتجدني بالأمير برا وبالقناة مدعسا مكرا


إذا غطيف السلمي فرا

الثانية : قوله تعالى وقالت اليهود هذا لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص ؛ لأن ليس كل اليهود قالوا ذلك . وهذا مثل قوله تعالى : الذين قال لهم الناس ولم يقل ذلك كل الناس . وقيل : إن قائل ما حكي عن اليهود سلام بن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف ، قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم . قال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا فإذا قالها واحد فيتوجه أن تلزم الجماعة شنعة المقالة ، لأجل نباهة القائل فيهم . وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس يحتج بها . فمن هاهنا صح أن تقول الجماعة قول نبيهها . والله أعلم .

وقد روي أن سبب ذلك القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير يسيح في الأرض ، فأتاه جبريل فقال : أين تذهب ؟ قال : أطلب العلم ، فعلمه التوراة كلها فجاء عزير بالتوراة إلى بني إسرائيل فعلمهم . وقيل : بل حفظها الله عزيرا كرامة منه له ، فقال لبني إسرائيل : إن الله قد حفظني التوراة ، فجعلوا يدرسونها من عنده . وكانت التوراة مدفونة ، كان دفنها علماؤهم حين أصابهم من الفتن والجلاء والمرض ما أصاب وقتل بختنصر إياهم . ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي متساوية لما كان عزير يدرس فضلوا عند ذلك وقالوا : إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله حكاه الطبري . وظاهر قول النصارى أن المسيح ابن الله ، إنما أرادوا بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة . وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما . وهذا أشنع الكفر . قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن إله . قال ابن عطية : ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة . وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق البنوة عليه وهو كفر .

الثالثة : قال ابن العربي : في هذا دليل من قول ربنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به لا حرج عليه ؛ لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له والرد عليه ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد ، فإذا مكن من إطلاق الألسن به فقد أذن بالإخبار عنه على معنى إنكاره بالقلب واللسان والرد عليه بالحجة والبرهان .

[ ص: 52 ] الرابعة : قوله تعالى ذلك قولهم بأفواههم قيل : معناه التأكيد ، كما قال تعالى : يكتبون الكتاب بأيديهم وقوله : ولا طائر يطير بجناحيه وقوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ومثله كثير . وقيل : المعنى أنه لما كان قول ساذج ليس فيه بيان ولا برهان ، وإنما هو قول بالفم مجرد نفس دعوى لا معنى تحته صحيح لأنهم معترفون بأن الله سبحانه لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدا ، فهو كذب وقول لساني فقط ، بخلاف الأقوال الصحيحة التي تعضدها الأدلة ويقوم عليها البرهان . قال أهل المعاني : إن الله سبحانه لم يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولا زورا ، كقوله : يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم و كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا و يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .

الخامسة : قوله تعالى يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ( يضاهئون ) يشابهون ، ومنه قول العرب : امرأة ضهيأ للتي لا تحيض أو التي لا ثدي لها ، كأنها أشبهت الرجال . وللعلماء في ( قول الذين كفروا ) ثلاثة أقوال : الأول : قول عبدة الأوثان : اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . الثاني : قول الكفرة : الملائكة بنات الله . الثالث : قول أسلافهم ، فقلدوهم في الباطل واتبعوهم على الكفر ، كما أخبر عنهم بقوله تعالى : إنا وجدنا آباءنا على أمة .

السادسة : اختلف العلماء في " ضهيأ " هل يمد أو لا ، فقال ابن ولاد : امرأة ضهيأ ، وهي التي لا تحيض ، مهموز غير ممدود . ومنهم من يمد وهو سيبويه فيجعلها على فعلاء بالمد ، والهمزة فيها زائدة لأنهم يقولون نساء ضهي فيحذفون الهمزة . قال أبو الحسن قال لي النجيرمي : ضهيأة بالمد والهاء . جمع بين علامتي تأنيث ، حكاه عن أبي عمرو الشيباني في النوادر . وأنشد :


ضهيأة أو عاقر جماد

ابن عطية : من قال يضاهئون مأخوذ من قولهم : امرأة ضهياء ، فقوله خطأ ، قاله أبو علي ؛ لأن الهمزة في " ضاهأ " أصلية ، وفي " ضهياء " زائدة كحمراء .

[ ص: 53 ] السابعة : قوله تعالى قاتلهم الله أنى يؤفكون أي لعنهم الله ، يعني اليهود والنصارى ؛ لأن الملعون كالمقتول . قال ابن جريج : قاتلهم الله هو بمعنى التعجب . وقال ابن عباس : كل شيء في القرآن قتل فهو لعن ، ومنه قول أبان بن تغلب :


قاتلها الله تلحاني وقد علمت     أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وحكى النقاش أن أصل " قاتل الله " الدعاء ، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر ، وهم لا يريدون الدعاء . وأنشد الأصمعي :


يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني     وأخبر الناس أني لا أباليها


التالي السابق


الخدمات العلمية