قوله تعالى : وجاءوا على قميصه بدم كذب  [ ص: 132 ] فيه ثلاث مسائل : 
الأولى : قوله تعالى 
بدم كذب قال 
مجاهد    : كان دم سخلة أو جدي ذبحوه . وقال 
قتادة    : كان دم ظبية ; أي جاءوا على قميصه بدم مكذوب فيه ، فوصف الدم بالمصدر ، فصار تقديره : بدم ذي كذب ; مثل : 
واسأل القرية والفاعل والمفعول قد يسميان بالمصدر ; يقال : هذا ضرب الأمير ، أي مضروبه وماء سكب أي مسكوب ، وماء غور أي غائر ، ورجل عدل أي عادل . وقرأ 
الحسن   nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة    : " بدم كدب " بالدال غير المعجمة ، أي بدم طري ; يقال للدم الطري الكدب . وحكي أنه المتغير ; قاله 
الشعبي    . والكدب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث ; فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اختلاف اللونين . 
الثانية : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها ، وهي سلامة القميص من التنييب ; إذ لا يمكن افتراس الذئب 
ليوسف  وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق ; ولما تأمل 
يعقوب    - عليه السلام - القميص فلم يجد فيه خرقا ولا أثرا استدل بذلك على كذبهم ، وقال لهم : متى كان هذا الذئب حكيما يأكل 
يوسف  ولا يخرق القميص ! قاله 
ابن عباس  وغيره ; روى 
إسرائيل  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16052سماك بن حرب  عن 
عكرمة  عن 
ابن عباس  قال : كان الدم دم سخلة . وروى 
سفيان  عن 
سماك  عن 
عكرمة  عن 
ابن عباس  قال : لما نظر إليه قال كذبتم ; لو كان الذئب أكله لخرق القميص . وحكى 
 nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي  أن في القميص ثلاث آيات : حين جاءوا عليه بدم كذب ، وحين قد قميصه من دبر ، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا . 
قلت : وهذا مردود ; فإن القميص الذي جاءوا عليه بالدم غير القميص الذي قد ، وغير القميص الذي أتاه البشير به . وقد قيل : إن القميص الذي قد هو الذي أتي به فارتد بصيرا ، على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى . وروي أنهم قالوا له : بل اللصوص قتلوه ; فاختلف قولهم فاتهمهم ، فقال لهم 
يعقوب    : تزعمون أن الذئب أكله ، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده ، وما أرى بالقميص من شق ; وتزعمون أن اللصوص قتلوه ، ولو قتلوه   
[ ص: 133 ] لأخذوا قميصه ; هل يريدون إلا ثيابه ؟ ! فقالوا عند ذلك : 
وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين عن 
الحسن  وغيره ; أي لو كنا موصوفين بالصدق لاتهمتنا . 
الثالثة : استدل الفقهاء بهذه الآية في 
إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها ، وأجمعوا على أن 
يعقوب    - عليه السلام - استدل على كذبهم بصحة القميص ; وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت ، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح ، وهي قوة التهمة ; ولا خلاف بالحكم بها ، قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي    . 
قوله تعالى : 
قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل 
فيه ثلاث مسائل : 
الأولى : روي أن 
يعقوب  لما قالوا له : 
فأكله الذئب قال لهم : ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به أستأنس به ؟ ! ألم يترك لي ثوبا أشم فيه رائحته ؟ قالوا : بلى ! هذا قميصه ملطوخ بدمه ; فذلك قوله تعالى : 
وجاءوا على قميصه بدم كذب فبكى 
يعقوب  عند ذلك وقال ، لبنيه : أروني قميصه ، فأروه فشمه وقبله ، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا ، فقال : والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه ; أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه ; وعلم أن الأمر ليس كما قالوا ، وأن الذئب لم يأكله ، فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال : يا معشر ولدي ! دلوني على ولدي ; فإن كان حيا رددته إلي ، وإن كان ميتا كفنته ودفنته ، فقيل قالوا حينئذ : ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا ! تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا ، ونأت أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا في مقالتنا ويقطع يأسه ; فقال 
يهوذا    : والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدوا ما بقيت ، ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم ; قالوا : فإذا منعتنا من هذا فتعالوا نصطد له ذئبا ، قال : فاصطادوا ذئبا ولطخوه بالدم ، وأوثقوه بالحبال ، ثم جاءوا به 
يعقوب  وقالوا : يا أبانا ! إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها ، ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا نشك فيه ، وهذا دمه عليه ، فقال 
يعقوب    : أطلقوه ; فأطلقوه ، وتبصبص له الذئب ; فأقبل يدنو منه 
ويعقوب  يقول له : ادن ادن ; حتى ألصق خده بخده فقال له 
يعقوب    : أيها الذئب ! لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا ؟ ! ثم قال اللهم أنطقه ، فأنطقه الله تعالى فقال : والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه ، ولا مزقت جلده ، ولا نتفت شعرة من شعراته ، ووالله ! ما لي بولدك عهد ، وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي 
مصر  في طلب أخ لي فقد ، فلا أدري أحي هو أم ميت ، فاصطادني أولادك وأوثقوني ، وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش ، وتالله لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش ; فأطلقه   
[ ص: 134 ] يعقوب  وقال : والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم ; هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه ، وأنتم ضيعتم أخاكم ، وقد علمت أن الذئب بريء مما جئتم به . 
بل سولت أي زينت لكم . 
لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون وتذكرون . 
ثم قال توطئة لنفسه : 
فصبر جميل وهي : 
الثانية : قال 
الزجاج    : أي فشأني والذي اعتقده صبر جميل . وقال قطرب : أي فصبري صبر جميل . وقيل : أي فصبر جميل أولى بي ; فهو مبتدأ وخبره محذوف . ويروى 
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الصبر الجميل فقال : هو الذي لا شكوى معه   . وسيأتي له مزيد بيان آخر السورة إن شاء الله . قال 
أبو حاتم    : قرأ 
عيسى بن عمر  فيما زعم 
سهل بن يوسف    " فصبرا جميلا " قال : وكذا قرأ 
الأشهب العقيلي    ; قال وكذا . في مصحف 
أنس  وأبي صالح .  قال 
المبرد    : 
فصبر جميل بالرفع أولى من النصب ; لأن المعنى : قال رب عندي صبر جميل ; قال : وإنما النصب على المصدر ، أي فلأصبرن صبرا جميلا ; قال : 
شكا إلي جملي طول السرى صبرا جميلا فكلانا مبتلى 
والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى . وقيل : المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين ، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم ; وفي هذا ما يدل على أنه عفا عن مؤاخذتهم . وعن 
حبيب بن أبي ثابت  أن 
يعقوب  كان قد سقط حاجباه على عينيه ; فكان يرفعهما بخرقة ; فقيل له : ما هذا ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان ; فأوحى الله إليه أتشكوني يا 
يعقوب  ؟ ! قال : يا رب ! خطيئة أخطأتها فاغفر لي   . 
والله المستعان ابتداء وخبر . 
على ما تصفون أي على احتمال ما تصفون من الكذب . 
الثالثة : قال 
ابن أبي رفاعة    : ينبغي لأهل الرأي أن يتهموا رأيهم عند ظن 
يعقوب    - صلى الله عليه وسلم - وهو نبي ; حين قال له بنوه : 
إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب قال : 
بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل فأصاب هنا ، ثم قالوا له : 
إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين قال : 
بل سولت لكم أنفسكم أمرا فلم يصب .