قوله تعالى : 
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون 
قوله تعالى : 
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك ، وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض ; أي أقدرناه على ما يريد . وقال 
إلكيا الطبري  قوله تعالى : 
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض دليل على إجازة 
الحيلة في التوصل إلى المباح ، وما فيه الغبطة والصلاح ، واستخراج   
[ ص: 190 ] الحقوق ، ومثله قوله تعالى : 
وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وحديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري  في عامل 
خيبر  ، والذي أداه من التمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما قاله . قلت : وهذا مردود على ما يأتي . يقال : مكناه ومكنا له ، قال الله تعالى : 
مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم   . قال 
الطبري    : استخلف 
الملك الأكبر الوليد بن الريان  يوسف  على عمل 
إطفير  وعزله ; قال 
مجاهد    : وأسلم على يديه . قال 
ابن عباس    : ملكه بعد سنة ونصف . وروى 
مقاتل  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : 
لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته   . ثم مات 
إطفير  فزوجه 
الوليد  بزوجة إطفير راعيل  ، فدخل بها 
يوسف  فوجدها عذراء ، وولدت له ولدين : 
إفراثيم  ومنشا  ، ابني 
يوسف  ، ومن زعم أنها 
زليخاء  قال : لم يتزوجها 
يوسف  ، وأنها لما رأته في موكبه بكت ، ثم قالت : الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بالمعصية ، والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكا ، فضمها إليه ، فكانت من عياله حتى ماتت عنده ، ولم يتزوجها ; ذكره 
 nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي    ; وهو خلاف ما تقدم عن 
وهب  ، وذكره 
الثعلبي    ; فالله أعلم . ولما فوض الملك أمر 
مصر  إلى 
يوسف  تلطف بالناس ، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به ، وأقام فيهم العدل ، فأحبه الرجال والنساء ، قال 
وهب   nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي   nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس  وغيرهم : ثم دخلت السنون المخصبة ، فأمر 
يوسف  بإصلاح المزارع ، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة ، فلما أدركت الغلة أمر بها فجمعت ، ثم بنى لها الأهراء ، فجمعت فيها في تلك السنة غلة ضاقت عنها المخازن لكثرتها ، ثم جمع عليه غلة كل سنة كذلك ، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل 
جبريل  وقال : يا 
أهل مصر  جوعوا ; فإن الله سلط عليكم الجوع سبع سنين . وقال بعض أهل الحكمة : للجوع والقحط علامتان : إحداهما : أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة ، ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك ، وتأخذ من الطعام فوق الكفاية . والثانية : أن يفقد الطعام فلا يوجد رأسا ويعز إلى الغاية ، فاجتمعت هاتان العلامتان في عهد 
يوسف  ، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع !!   
[ ص: 191 ] ويأكلون ولا يشبعون ، وانتبه الملك ، ينادي الجوع الجوع !! قال : فدعا له 
يوسف  فأبرأه الله من ذلك ، ثم أصبح فنادى 
يوسف  في أرض 
مصر  كلها ; معاشر الناس ! لا يزرع أحد زرعا فيضيع البذر ولا يطلع شيء . وجاءت تلك السنون بهول عظيم لا يوصف ; قال 
ابن عباس    : لما كان ابتداء القحط بينا الملك في جوف الليل أصابه الجوع في نصف الليل ، فهتف الملك يا 
يوسف    ! الجوع الجوع !! فقال 
يوسف    : هذا أوان القحط ; فلما دخلت أول سنة من سني القحط هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة ، فجعل 
أهل مصر  يبتاعون الطعام من 
يوسف    ; فباعهم أول سنة بالنقود ، حتى لم يبق 
بمصر  دينار ولا درهم إلا قبضه ; وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر ، حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء ; وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب ، حتى احتوى عليها أجمع ، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء ، حتى احتوى على الكل ; وباعهم في السنة الخامسة بالعقار والضياع ، حتى ملكها كلها ; وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ونسائهم فاسترقهم جميعا وباعهم في السنة السابعة برقابهم ، حتى لم يبق في السنة السابعة 
بمصر  حر ولا عبد إلا صار عبدا له ; فقال الناس : والله ما رأينا ملكا أجل ولا أعظم من هذا ; فقال 
يوسف  لملك 
مصر    : كيف رأيت صنع ربي فيما خولني ! والآن كل هذا لك ، فما ترى فيه ؟ فقال : فوضت إليك الأمر فافعل ما شئت ، وإنما نحن لك تبع ; وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك ، ولا أنا إلا من بعض مماليكك ، وخول من خولك ; فقال 
يوسف    - عليه السلام - : إني لم أعتقهم من الجوع لأستعبدهم ، ولم أجرهم من البلاء لأكون عليهم بلاء ; وإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت 
أهل مصر  عن آخرهم ، ورددت عليهم أموالهم وأملاكهم ، ورددت عليك ملكك بشرط أن تستن بسنتي . ويروى أن 
يوسف    - عليه السلام - كان لا يشبع من طعام في تلك السنين ، فقيل له : أتجوع وبيدك خزائن الأرض ؟ فقال : إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع ; وأمر 
يوسف  طباخ الملك أن يجعل غذاءه نصف النهار ، حتى يذوق الملك طعم الجوع . فلا ينسى الجائعين ; فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار . 
قوله تعالى : 
نصيب برحمتنا من نشاء أي بإحساننا ; والرحمة النعمة والإحسان . 
ولا نضيع أجر المحسنين أي ثوابهم . وقال 
ابن عباس  ووهب    : يعني الصابرين ; لصبره في الجب ، وفي الرق ، وفي السجن ، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي    : واختلف فيما أوتيه 
يوسف  من هذه الحال على قولين : أحدهما : أنه ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه . الثاني : أنه أنعم الله عليه بذلك تفضلا منه عليه ، وثوابه باق على حاله في الآخرة .  
[ ص: 192 ] قوله تعالى : 
ولأجر الآخرة خير أي ما نعطيه في الآخرة خير وأكثر مما أعطيناه في الدنيا ; لأن أجر الآخرة دائم ، وأجر الدنيا ينقطع ; وظاهر الآية العموم في كل مؤمن متق ; وأنشدوا : 
أما في رسول الله يوسف  أسوة لمثلك محبوسا على الظلم والإفك     أقام جميل الصبر في الحبس برهة 
فآل به الصبر الجميل إلى الملك 
وكتب بعضهم إلى صديق له : 
وراء مضيق الخوف متسع الأمن     وأول مفروح به آخر الحزن 
فلا تيأسن فالله ملك يوسفا      خزائنه بعد الخلاص من السجن 
وأنشد بعضهم : 
إذا الحادثات بلغن النهى     وكادت تذوب لهن المهج 
وحل البلاء وقل العزاء     فعند التناهي يكون الفرج 
والشعر في هذا المعنى كثير .