1. الرئيسية
  2. تفسير القرطبي
  3. سورة النمل
  4. قوله تعالى ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله
صفحة جزء
قوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون .

قوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور أي واذكر يوم ، أو ذكرهم يوم ينفخ في الصور . ومذهب الفراء أن المعنى : وذلكم يوم ينفخ في الصور ; وأجاز فيه الحذف والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل قال مجاهد : كهيئة البوق . وقيل : هو البوق بلغة أهل اليمن وقد مضى في ( الأنعام ) بيانه وما للعلماء في ذلك . ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لما فرغ من خلق السماوات خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخة . قلت : يا رسول الله ما الصور ؟ قال : قرن - والله - عظيم ، والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات : النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية [ ص: 222 ] نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث والقيام لرب العالمين وذكر الحديث . ذكره علي بن معبد والطبري والثعلبي وغيرهم ، وصححه ابن العربي . وقد ذكرته في كتاب ( التذكرة ) وتكلمنا عليه هنالك ، وأن الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث ، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لا زمان لهما ; أي فزعوا فزعا ماتوا منه ; أو إلى نفخة البعث . وهو اختيار القشيري وغيره ; فإنه قال في كلامه على هذه الآية : والمراد النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون : من بعثنا من مرقدنا ; ويعاينون من الأمور ما يهولهم ويفزعهم ; وهذا النفخ كصوت البوق لتجتمع الخلق في أرض الجزاء . قاله قتادة وقال الماوردي : ويوم ينفخ في الصور هو يوم النشور من القبور ، قال : وفي هذا الفزع قولان : أحدهما أنه الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم : فزعت إليك في كذا : إذا أسرعت إلى ندائك في معونتك . والقول الثاني : إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحزن ; لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا . وهذا أشبه القولين .

قلت : والسنة الثابتة من حديث أبى هريرة وحديث عبد الله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث ; خرجهما مسلم وقد ذكرناهما في كتاب ( التذكرة ) وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان ; قال الله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة . وقد روى ابن المبارك عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بين النفختين أربعون سنة ، الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيي الله بها كل ميت فإن قيل : فإن قوله تعالى : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة إلى أن قال : فإنما هي زجرة واحدة وهذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث . قيل له : ليس كذلك ، وإنما المراد بالزجرة : النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم ; كذلك قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن زيد وغيرهم . قال مجاهد : هما صيحتان أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله ، وأما الأخرى فتحيي كل شيء بإذن الله . وقال عطاء : ( الراجفة ) : القيامة و ( الرادفة ) : البعث . وقال ابن زيد : ( الراجفة ) : الموت و ( الرادفة ) : الساعة . والله أعلم . إلا من شاء الله اختلف في هذا المستثنى من هم . [ ص: 223 ] ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون . إنما يصل الفزع إلى الأحياء ; وهو قول سعيد بن جبير أنهم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وقال القشيري : الأنبياء داخلون في جملتهم ; لأن لهم الشهادة مع النبوة . وقيل : الملائكة . قال الحسن : استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين . قال مقاتل : يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت . وقيل : الحور العين . وقيل : هم المؤمنون ، لأن الله تعالى قال عقب هذا : من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون وقال بعض علمائنا : والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل .

قلت : خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي فليعول عليه ، لأنه نص في التعيين ، وغيره اجتهاد . والله أعلم . وقيل غير هذا على ما يأتي في ( الزمر ) وقوله ففزع من في السماوات ماض و ( ينفخ ) مستقبل فيقال : كيف عطف ماض على مستقبل ؟ فزعم الفراء أن هذا محمول على المعنى ; لأن المعنى : إذا نفخ في الصور ففزع . إلا من شاء الله نصب على الاستثناء . وكل أتوه داخرين قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي ونافع وابن عامر وابن كثير : ( آتوه ) جعلوه فعلا مستقبلا . وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة وحفص عن عاصم : ( وكل أتوه ) مقصورا ، على الفعل الماضي ، وكذلك قرأه ابن مسعود وعن قتادة ( وكل أتاه داخرين ) قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق في القراءات من قرأ : ( وكل أتوه ) وحده على لفظ ( كل ) ومن قرأ : ( أتوه ) جمع على معناها ، وهذا القول غلط قبيح ; لأنه إذا قال : ( وكل أتوه ) فلم يوحد وإنما جمع ، ولو وحد لقال : ( أتاه ) ولكن من قال : ( أتوه ) جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنه رده إلى ( ففزع ) ومن قرأ ( وكل آتوه ) حمله على المعنى أيضا وقال : ( آتوه ) لأنها جملة منقطعة من الأول قال ابن نصر : قد حكي عن أبي إسحاق رحمه الله ما لم يقله ، ونص أبي إسحاق : وكل أتوه داخرين ويقرأ : ( آتوه ) فمن وحد فللفظ ( كل ) ومن جمع فلمعناها . يريد ما أتى في القرآن أو غيره من توحيد خبر ( كل ) فعلى اللفظ أو جمع فعلى المعنى ; فلم يأخذ أبو جعفر هذا المعنى قال المهدوي : ومن قرأ وكل أتوه داخرين فهو فعل من الإتيان وحمل على معنى ( كل ) دون لفظها ، ومن قرأ ( وكل آتوه داخرين ) فهو اسم الفاعل من أتى . يدلك على ذلك قوله تعالى : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ومن قرأ ( وكل أتاه ) حمله على لفظ ( كل ) دون معناها وحمل ( داخرين ) على المعنى ، ومعناه صاغرين ، عن ابن عباس وقتادة . وقد مضى في ( النحل ) .

[ ص: 224 ] قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب قال ابن عباس : أي قائمة وهي تسير سيرا حثيثا . قال القتبي : وذلك أن الجبال تجمع وتسير ، فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير ; وكذلك كل شي عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر ، لكثرته وبعد ما بين أطرافه ، وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير . قال النابغة في وصف جيش :


بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج

قال القشيري : وهذا يوم القيامة ; أي هي لكثرتها كأنها جامدة أي واقفة في مرأى العين وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب - والسحاب المتراكم - يظن أنها واقفة وهي تسير ، أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء ، فقال الله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا ويقال : إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها ، وإبراز ما كانت تواريه ، فأول الصفات الاندكاك وذلك قبل الزلزلة ; ثم تصير كالعهن المنفوش ; وذلك إذا صارت السماء كالمهل ، وقد جمع الله بينهما فقال : يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن . والحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن . والحالة الرابعة أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها لتبرز ، فإذا نسفت فبإرسال الرياح عليها . والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها على وجه الأرض فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار ، فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجسادا جامدة ، وهي بالحقيقة مارة ، إلا إن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة . والحالة السادسة أن تكون سرابا . فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا منها كالسراب قال مقاتل : تقع على الأرض فتسوى بها . ثم قيل هذا مثل ، قال الماوردي : وفيهما ضرب له ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال ، وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب ; قاله سهل بن عبد الله .

الثاني : أنه مثل ضربه الله للإيمان تحسبه ثابتا في القلب وعمله صاعد إلى السماء .

الثالث : أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى العرش . و ( ترى ) من رؤية العين ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين . والأصل ترأى فألقيت حركة الهمزة على الراء فتحركت الراء وحذفت الهمزة ، وهذا سبيل تخفيف الهمزة إذا كان قبلها ساكن ، إلا أن التخفيف لازم ل ( ترى ) . وأهل الكوفة يقرءون : ( تحسبها ) بفتح السين وهو القياس ; لأنه من : حسب يحسب ، إلا أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل ، [ ص: 225 ] فتكون على : فعل يفعل ، مثل : نعم ينعم وبئس يبئس . وحكي : يئس ييئس ، من السالم ، لا يعرف في كلام العرب غير هذه الأحرف .

وهي تمر مر السحاب تقديره : مرا مثل مر السحاب ، فأقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف مقام المضاف إليه ; فالجبال تزال من أماكنها من على وجه الأرض وتجمع وتسير كما تسير السحاب ، ثم تكسر فتعود إلى الأرض كما قال : وبست الجبال بسا صنع الله عند الخليل وسيبويه منصوب على أنه مصدر ; لأنه لما قال عز وجل : وهي تمر مر السحاب دل على أنه قد صنع ذلك صنعا . ويجوز النصب على الإغراء ; أي انظروا صنع الله . فيوقف على هذا على ( السحاب ) ولا يوقف عليه على التقدير الأول . ويجوز رفعه على تقدير : ذلك صنع الله . الذي أتقن كل شيء أي أحكمه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : رحم الله من عمل عملا فأتقنه . وقال قتادة : معناه : أحسن كل شيء . والإتقان : الإحكام ; يقال : رجل تقن ، أي حاذق بالأشياء وقال الزهري : أصله من ابن تقن ، وهو رجل من عاد لم يكن يسقط له سهم فضرب به المثل ; يقال : أرمى من ابن تقن . ثم يقال لكل حاذق بالأشياء : تقن . ( إنه خبير بما يفعلون ) والباقون ( تفعلون ) بالتاء على الخطاب قراءة الجمهور وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء .

قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله خير منها قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما : الحسنة : لا إله إلا الله . وقال أبو معشر : كان إبراهيم يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ولا يستثني أن الحسنة : لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقال علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم : غزا رجل فكان إذا خلا بمكان قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له فبينما هو في أرض الروم في أرض جلفاء وبردى رفع صوته فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له فخرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض فقال له : والذي نفسي بيده إنها الكلمة التي قال الله تعالي : من جاء بالحسنة فله خير منها وروى أبو ذر قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : اتق الله وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها قال : قلت : يا رسول الله أمن الحسنات : لا إله إلا الله ؟ قال : من أفضل الحسنات وفي رواية قال : نعم هي أحسن [ ص: 226 ] الحسنات . ذكره البيهقي ، وقال قتادة : من جاء بالحسنة بالإخلاص والتوحيد . وقيل : أداء الفرائض كلها .

قلت : إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها وما يجب لها على ما تقدم بيانه في سورة ( إبراهيم ) فقد أتى بالتوحيد والإخلاص والفرائض . فله خير منها قال ابن عباس : أي وصل إليه الخير منها ; وقاله مجاهد وقيل : فله الجزاء الجميل وهو الجنة وليس ( خير ) للتفضيل . قال عكرمة وابن جريج : أما أن يكون له خير منها يعني من الإيمان فلا ، فإنه ليس شيء خيرا ممن قال : لا إله إلا الله ، ولكن له منها خير . وقيل : فله خير منها للتفضيل ، أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره ، وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد ، قاله ابن عباس وقيل : يرجع هذا إلى الإضعاف فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشرا ; وبالإيمان في مدة يسيرة الثواب الأبدي . قاله محمد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد وهم من فزع يومئذ آمنون قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( فزع يومئذ ) بالإضافة . قال أبو عبيد : وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم ، وإذا قال : من فزع يومئذ صار كأنه فزع دون فزع . قال القشيري : وقرئ : ( من فزع ) بالتنوين ثم قيل يعني به فزعا واحدا كما قال : لا يحزنهم الفزع الأكبر وقيل : عنى الكثرة لأنه مصدر والمصدر صالح للكثرة .

قلت : فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى . قال المهدوي : ومن قرأ : ( من فزع يومئذ ) بالتنوين ، انتصب ( يومئذ ) بالمصدر الذي هو ( فزع ) ويجوز أن يكون صفة ل ( فزع ) ويكون متعلقا بمحذوف ; لأن المصادر يخبر عنها بأسماء الزمان وتوصف بها ، ويجوز أن يتعلق باسم الفاعل الذي هو ( آمنون ) . والإضافة على الاتساع في الظروف ، ومن حذف التنوين وفتح الميم بناه لأنه ظرف زمان ، وليس الإعراب في ظرف الزمان متمكنا ، فلما أضيف إلى غير متمكن ولا معرب بني . وأنشد سيبويه :


على حين ألهى الناس جل أمورهم     فندلا زريق المال ندل الثعالب


قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة أي بالشرك ، قاله ابن عباس والنخعي وأبو هريرة ومجاهد وقيس بن سعد والحسن ، وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة لا إله إلا الله ، وأن السيئة الشرك في هذه الآية . فكبت وجوههم في النار قال ابن عباس : ألقيت . وقال الضحاك : طرحت ، ويقال كببت الإناء أي قلبته على وجهه ، واللازم منه : أكب ، وقلما يأتي هذا [ ص: 227 ] في كلام العرب ( هل تجزون ) أي يقال لهم : هل تجزون . ثم يجوز أن يكون من قول الله ، ويجوز أن يكون من قول الملائكة إلا ما كنتم تعملون أي إلا جزاء أعمالكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية