صفحة جزء
قوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون .

قوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى قد تقدم معنى الوحي ومحامله واختلف في هذا الوحي إلى أم موسى ; فقالت فرقة : كان قولا في منامها وقال قتادة : كان إلهاما . وقالت فرقة : كان بملك يمثل لها ، قال مقاتل : أتاها جبريل بذلك . فعلى هذا هو وحي إعلام لا إلهام . وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية ، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم [ ص: 232 ] الملك للأقرع والأبرص والأعمى في الحديث المشهور ; خرجه البخاري ومسلم ، وقد ذكرناه في سورة ( براءة ) وغير ذلك مما روي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة ، وقد سلمت على عمران بن حصين فلم يكن بذلك نبيا .

واسمها أيارخا وقيل أيارخت فيما ذكر السهيلي وقال الثعلبي : واسم أم موسى لوحا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب . أن أرضعيه وقرأ عمر بن عبد العزيز : ( أن ارضعيه ) بكسر النون وألف وصل ; حذف همزة ( أرضع ) تخفيفا ثم كسر النون لالتقاء الساكنين . قال مجاهد : وكان الوحي بالرضاع قبل الولادة . وقال غيره : بعدها . قال السدي : لما ولدت أم موسى أمرت أن ترضعه عقيب الولادة وتصنع به بما في الآية ; لأن الخوف كان عقيب الولادة وقال ابن جريج : أمرت بإرضاعه أربعة أشهر في بستان ، فإذا خافت أن يصيح لأن لبنها لا يكفيه صنعت به هذا . والأول أظهر إلا أن الآخر يعضده قوله : فإذا خفت عليه و ( إذا ) لما يستقبل من الزمان ; فيروى أنها اتخذت له تابوتا من بردي وقيرته بالقار من داخله ، ووضعت فيه موسى وألقته في نيل مصر وقد مضى خبره في ( طه ) قال ابن عباس : إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ، فسلط الله عليهم القبط ، وساموهم سوء العذاب ، إلى أن نجاهم الله على يد موسى قال وهب : بلغني أن فرعون ذبح في طلب موسى سبعين ألف وليد ويقال : تسعون ألفا . ويروى أنها حين اقتربت وضربها الطلق ، وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها ، فقالت : لينفعني حبك اليوم ، فعالجتها فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ، وارتعش كل مفصل منها ، ودخل حبه قلبها ، ثم قالت : ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون ، ولكني وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله قط ، فاحفظيه ; فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور نارا لم تعلم ما تصنع لما طاش عقلها ، فطلبوا فلم يلفوا شيئا ، فخرجوا وهي لا تدري مكانه ، فسمعت بكاءه من التنور ، وقد جعل الله عليه النار بردا وسلاما .

قوله تعالى : ولا تخافي فيه وجهان : أحدهما : لا تخافي عليه الغرق ; قاله ابن زيد الثاني : لا تخافي عليه الضيعة ; قاله يحيى بن سلام ولا تحزني فيه أيضا وجهان : أحدهما : لا تحزني لفراقه ; قاله ابن زيد الثاني : لا تحزني أن يقتل ; قاله يحيى بن سلام فقيل : إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار ، وجعلت المفتاح مع [ ص: 233 ] التابوت وطرحته في اليم بعد أن أرضعته أربعة أشهر وقال آخرون : ثلاثة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر ; في حكاية الكلبي وحكي أنه لما فرغ النجار من صنعة التابوت نم إلى فرعون بخبره ، فبعث معه من يأخذه ، فطمس الله عينيه وقلبه فلم يعرف الطريق ، فأيقن أنه المولود الذي يخاف منه فرعون ، فآمن من ذلك الوقت ; وهو مؤمن آل فرعون ; ذكره الماوردي . قال ابن عباس : فلما توارى عنها ندمها الشيطان وقالت في نفسها : لو ذبح عندي فكفنته وواريته لكان أحب إلي من إلقائه في البحر فقال الله تعالى : إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين أي إلى أهل مصر . حكى الأصمعي قال : سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول :


أستغفر الله لذنبي كله قبلت إنسانا بغير حله     مثل الغزال ناعما في دله
فانتصف الليل ولم أصله



فقلت : قاتلك الله ما أفصحك ! فقالت : أويعد هذا فصاحة مع قوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه الآية فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين .

قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا لما كان التقاطهم إياه يؤدي إلى كونه لهم عدوا وحزنا ; فاللام في ( ليكون ) لام العاقبة ولام الصيرورة ; لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين ، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا ، فذكر الحال بالمآل ; كما قال الشاعر :


وللمنايا تربي كل مرضعة     ودورنا لخراب الدهر نبنيها



وقال آخر :


فللموت تغذو الوالدات سخالها     كما لخراب الدهر تبنى المساكن



أي فعاقبة البناء الخراب وإن كان في الحال مفروحا به .

والالتقاط وجود الشيء من غير [ ص: 234 ] طلب ولا إرادة ، والعرب تقول لما وجدته من غير طلب ولا إرادة : التقطه التقاطا ولقيت فلانا التقاطا . قال الراجز :


ومنهل وردته التقاطا

ومنه اللقطة . وقد مضى بيان ذلك من الأحكام في سورة ( يوسف ) بما فيه كفاية وقرأ الأعمش ويحيى والمفضل وحمزة والكسائي وخلف : ( وحزنا ) بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بفتحهما واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قال : التفخيم فيه . وهما لغتان مثل العدم والعدم ، والسقم والسقم ، والرشد والرشد إن فرعون وهامان وكان وزيره من القبط وجنودهما كانوا خاطئين أي عاصين مشركين آثمين .

قوله تعالى : وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه يروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر ، فأمرت بسوقه إليها وفتحه فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته ; فقالت لفرعون : قرة عين لي ولك أي هو قرة عين لي ولك ف ( قرة ) خبر ابتداء مضمر ; قاله الكسائي وقال النحاس : وفيه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسحاق ; قال : يكون رفعا بالابتداء والخبر ( لا تقتلوه ) وإنما بعد لأنه يصير المعنى أنه معروف بأنه قرة عين وجوازه أن يكون المعنى : إذا كان قرة عين لي ولك فلا تقتلوه . وقيل : تم الكلام عند قوله : ( ولك ) النحاس : والدليل على هذا أن في قراءة عبد الله بن مسعود : ( وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك ) ويجوز النصب بمعنى : لا تقتلوا قرة عين لي ولك . وقالت : لا تقتلوه ، ولم تقل : لا تقتله ، فهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبارون ; وكما يخبرون عن أنفسهم وقيل : قالت : لا تقتلوه فإن الله أتى به من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل عسى أن ينفعنا فنصيب منه خيرا أو نتخذه ولدا وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها ، وكان فرعون لما رأى الرؤيا وقصها على كهنته وعلمائه على ما تقدم - قالوا له إن غلاما من بني إسرائيل يفسد ملكك ; فأخذ بني إسرائيل بذبح الأطفال ، فرأى أنه يقطع نسلهم فعاد يذبح عاما ويستحيي عاما ، فولد هارون في عام الاستحياء ، وولد موسى في عام الذبح .

قوله تعالى : وهم لا يشعرون هذا ابتداء كلام من الله تعالى ; أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وقيل : هو من كلام المرأة ; أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه ، ولا [ ص: 235 ] يشعرون إلا أنه ولدنا واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون قرة عين لي ولك فقالت فرقة : كان ذلك عند التقاطه التابوت لما أشعرت فرعون به ولما أعلمته سبق إلى فهمه أنه من بني إسرائيل ، وأن ذلك قصد به ليتخلص من الذبح فقال : علي بالذباحين ; فقالت امرأته ما ذكر فقال فرعون : أما لي فلا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له وقال السدي : بل ربته حتى درج فرأى فرعون فيه شهامة وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده ، فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ بذبحه ، وحينئذ خاطبته بهذا ، وجربته له في الياقوتة والجمرة ، فاحترق لسانه وعلق العقدة على ما تقدم في ( طه ) قال الفراء : سمعت محمد بن مروان الذي يقال له السدي يذكر عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : إنما قالت قرة عين لي ولك لا ثم قالت : ( تقتلوه ) قال الفراء : وهو لحن ; قال ابن الأنباري : وإنما حكم عليه باللحن لأنه لو كان كذلك لكان ( تقتلونه ) بالنون ; لأن الفعل المستقبل مرفوع حتى يدخل عليه الناصب أو الجازم ، فالنون فيه علامة الرفع قال الفراء : ويقويك على رده قراءة عبد الله بن مسعود ( وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك ) بتقديم ( لا تقتلوه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية