قوله تعالى : واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير   . 
فيه ست مسائل : 
الأولى : قوله تعالى : 
واقصد في مشيك لما نهاه عن الخلق الذميم رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله فقال : 
واقصد في مشيك أي توسط فيه . والقصد : ما بين الإسراع والبطء ; أي لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار ; وقال   
[ ص: 67 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : 
سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن   . فأما ما روي 
عنه عليه السلام أنه كان إذا مشى أسرع ، وقول 
عائشة  في 
عمر  رضي الله عنهما : كان إذا مشى أسرع   - فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت ; والله أعلم . وقد مدح الله سبحانه من هذه صفته حسبما تقدم بيانه في ( الفرقان ) . 
الثانية : 
واغضض من صوتك أي انقص منه ; أي لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه ; فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي . والمراد بذلك كله التواضع ; وقد قال 
عمر  لمؤذن تكلف رفع الأذان بأكثر من طاقته : لقد خشيت أن ينشق مريطاؤك ! والمؤذن هو 
أبو محذورة سمرة بن معير    . والمريطاء : ما بين السرة إلى العانة . 
الثالثة : 
إن أنكر الأصوات لصوت الحمير أي أقبحها وأوحشها ; ومنه أتانا بوجه منكر . والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة ، وكذلك نهاقه ; ومن استفحاشهم لذكره مجردا أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون : الطويل الأذنين ; كما يكنى عن الأشياء المستقذرة . وقد عد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة . ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة . وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعا وتذللا لله تبارك وتعالى . 
الرابعة : في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير ; لأنها عالية . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=832306وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا   . وقد روي : أنه 
ما صاح حمار ولا نبح كلب إلا أن يرى شيطانا   . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري    : صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير   . ، وقال 
عطاء    : نهيق الحمير دعاء على الظلمة   .  
[ ص: 68 ] الخامسة : وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم ، أو بترك الصياح جملة ; وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك ، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز ، ومن كان أخفض كان أذل ، حتى قال شاعرهم : 
جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم     ويعدو على الأين عدوى الظليم 
ويعلو الرجال بخلق عمم 
فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله : 
إن أنكر الأصوات لصوت الحمير أي لو أن شيئا يهاب لصوته لكان الحمار ; فجعلهم في المثل سواء . 
السادسة : قوله تعالى : 
لصوت الحمير اللام للتأكيد ، ووحد الصوت وإن كان مضافا إلى الجماعة لأنه مصدر والمصدر يدل على الكثرة ، وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت . ويقال : صوت تصويتا فهو مصوت . ورجل صات أي شديد الصوت بمعنى صائت ; كقولهم : رجل مال ونال ; أي كثير المال والنوال .