قوله تعالى : 
من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور   . 
قوله تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا التقدير عند 
الفراء    : من كان يريد علم العزة . وكذا قال غيره من أهل العلم . أي من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها ; لأن العزة إذا كانت تؤدي إلى ذلة فإنما هي تعرض للذلة ، والعزة التي لا ذل معها لله عز وجل . ( جميعا ) منصوب على الحال . وقدر 
الزجاج  معناه : من كان يريد بعبادته الله - عز وجل - العزة - والعزة له سبحانه - فإن الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا . 
قلت : وهذا أحسن ، وروي مرفوعا على ما يأتي ( فلله العزة جميعا ) ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته ، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره ; فتكون الألف واللام للعهد عند العالمين به سبحانه وبما وجب له من ذلك ، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس : 
ولا يحزنك قولهم إن العزة لله   . ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق ; فتكون الألف واللام للاستغراق ، وهو المفهوم من آيات هذه السورة . فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل ، وسكون وخضوع ، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه ; قال صلى الله عليه وسلم : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=832427من تواضع لله   [ ص: 295 ] رفعه الله   . ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده . وقد ذكر قوما طلبوا العزة عند من سواه فقال : 
الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا   . فأنبأك صريحا لا إشكال فيه أن العزة له يعز بها من يشاء ويذل من يشاء . وقال صلى الله عليه وسلم مفسرا لقوله 
من كان يريد العزة فلله العزة جميعا   : 
من أراد عز الدارين فليطع العزيز   . وهذا معنى قول 
الزجاج    . ولقد أحسن من قال : 
وإذا تذللت الرقاب تواضعا منا إليك فعزها في ذلها 
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر ، ويدخل دار العزة - ولله العزة - فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به ; فإنه من اعتز بالعبد أذله الله ، ومن اعتز بالله أعزه الله . 
قوله تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فيه مسألتان : 
الأولى : قوله تعالى : 
إليه يصعد الكلم الطيب وتم الكلام . ثم تبتدئ 
والعمل الصالح يرفعه على معنى : يرفعه الله ، أو يرفع صاحبه . ويجوز أن يكون المعنى : والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب ; فيكون الكلام متصلا على ما يأتي بيانه . والصعود هو الحركة إلى فوق ، وهو العروج أيضا . ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض ، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله ; لأن موضع الثواب فوق ، وموضع العذاب أسفل . وقال 
الزجاج    : يقال ارتفع الأمر إلى القاضي أي علمه ; فهو بمعنى العلم . وخص الكلام والطب بالذكر لبيان الثواب عليه . وقوله إليه أي إلى الله يصعد . وقيل : يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لأحد غيره حكم . وقيل : أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات العبد إلى السماء . و ( الكلم الطيب ) هو التوحيد الصادر عن عقيدة طيبة . وقيل : هو التحميد والتمجيد ، وذكر الله ونحوه . وأنشدوا : 
لا ترض من رجل حلاوة قوله     حتى يزين ما يقول فعال 
فإذا وزنت فعاله بمقاله     فتوازنا فإخاء ذاك جمال 
 [ ص: 296 ] وقال 
ابن المقفع    : قول بلا عمل ، كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر . وفيه قيل : 
لا يكون المقال إلا بفعل     كل قول بلا فعال هباء 
إن قولا بلا فعال جميل     ونكاحا بلا ولي سواء 
وقرأ 
الضحاك    ( يصعد ) بضم الياء . وقرأ جمهور الناس ( الكلم ) جمع كلمة . وقرأ 
أبو عبد الرحمن    ( الكلام ) . 
قلت : فالكلام على هذا قد يطلق بمعنى الكلم وبالعكس ; وعليه يخرج قول 
أبي القاسم    : أقسام الكلام ثلاثة ; فوضع الكلام موضع الكلم ، والله أعلم . 
والعمل الصالح يرفعه قال 
ابن عباس  ومجاهد  وغيرهما : المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب   . وفي الحديث 
لا يقبل الله قولا إلا بعمل ، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة   . قال 
ابن عباس    : فإذا ذكر العبد الله وقال كلاما طيبا وأدى فرائضه ، ارتفع قوله مع عمله وإذا قال ولم يؤد فرائضه رد قوله على عمله   . قال 
ابن عطية    : وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ولا يصح عن 
ابن عباس    . 
والحق أن 
العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه ، وله حسناته وعليه سيئاته ، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك . وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح ، وإنما يستقيم قول من يقول : إن العمل هو الرافع للكلم ، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه . كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك ، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف ; فيكون قوله : 
والعمل الصالح يرفعه موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال . وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها ; كالتوحيد والتسبيح فمقبولة . قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي    : إن 
كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع   ; لأن من خالف قوله فعله فهو وبال عليه . وتحقيق هذا : أن العمل إذا وقع شرطا في قبول القول أو مرتبطا ، فإنه لا قبول له إلا به وإن لم يكن شرطا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له ، وعمله السيئ يكتب عليه ، وتقع الموازنة بينهما ، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران . 
قلت : ما قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي  تحقيق . والظاهر أن 
العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب   . وقد جاء في الآثار : ( 
أن العبد إذا قال : لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة إلى   [ ص: 297 ] عمله ، فإن كان العمل موافقا لقوله صعدا جميعا ، وإن كان عمله مخالفا وقف قوله حتى يتوب من عمله   ) . فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله . والكناية في ( يرفعه ) ترجع إلى الكلم الطيب . وهذا قول 
ابن عباس   nindex.php?page=showalam&ids=16128وشهر بن حوشب   nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير  ومجاهد  وقتادة   nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبي العالية  والضحاك    . وعلى أن الكلم الطيب هو التوحيد ، فهو الرافع للعمل الصالح ; لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد . أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ; فالكناية تعود على العمل الصالح . وروي هذا القول عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16128شهر بن حوشب  قال : الكلم الطيب القرآن والعمل الصالح يرفعه القرآن   . وقيل : تعود على الله جل وعز ; أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب ; لأن العمل تحقيق الكلم ، والعامل أكثر تعبا من القائل ، وهذا هو حقيقة الكلام ; لأن الله هو الرافع الخافض . والثاني والأول مجاز ، ولكنه سائغ جائز . 
قال 
النحاس    : القول الأول أولاها وأصحها لعلو من قال به ، وأنه في العربية أولى ; لأن القراء على رفع العمل . ولو كان المعنى : والعمل الصالح يرفعه الله ، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ، لكان الاختيار نصف العمل . ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا إلا شيئا روي عن 
عيسى بن عمر  أنه قال : قرأه أناس 
والعمل الصالح يرفعه الله   . وقيل : والعمل الصالح يرفع صاحبه ، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تطلب من الله تعالى ; ذكره 
القشيري    . 
الثانية : ذكروا عند 
ابن عباس  أن 
الكلب يقطع الصلاة ، فقرأ هذه الآية : 
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه   . وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم ، وقد دخل في الصلاة بشروطها ، فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك ; من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع . وقد تعلق من رأى ذلك بقوله عليه السلام : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=832429يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود فقلت : ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر ؟ فقال : إن الأسود شيطان خرجه 
مسلم    . وقد جاء ما يعارض هذا ، وهو ما خرجه 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  عن ابن أخي 
ابن شهاب  أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء ؟ فقال : لا   
[ ص: 298 ] يقطعها شيء ، أخبرني 
عروة بن الزبير  أن 
عائشة  زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=832430لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل ، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله   . 
قوله تعالى : والذين يمكرون السيئات ذكر 
الطبري  في ( كتاب آداب النفوس ) : حدثني 
 nindex.php?page=showalam&ids=17418يونس بن عبد الأعلى  قال حدثنا 
سفيان  عن 
ليث بن أبي سليم  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16128شهر بن حوشب الأشعري  في قوله عز وجل : 
والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور قال : هم أصحاب الرياء ; وهو قول 
ابن عباس  ومجاهد  وقتادة    . وقال 
أبو العالية    : هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة . وقال 
الكلبي    : يعني الذين يعملون السيئات في الدنيا ، 
مقاتل    : يعني الشرك ، فتكون السيئات مفعولة . ويقال : بار يبور إذا هلك وبطل . وبارت السوق أي كسدت ، ومنه : نعوذ بالله من بوار الأيم . وقوله : " وكنتم قوما بورا " أي هلكى . والمكر : ما عمل على سبيل احتيال وخديعة . وقد مضى في ( سبأ ) .