صفحة جزء
[ ص: 129 ] سورة ص

سورة ص .

مكية في قول الجميع ، وهي ست وثمانون آية . وقيل ثمان وثمانون آية .

بسم الله الرحمن الرحيم .

ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص .

قوله تعالى : ص قراءة العامة " ص " بجزم الدال على الوقف ; لأنه حرف من حروف الهجاء مثل : الم و المر . وقرأ أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم " صاد " بكسر الدال بغير تنوين . ولقراءته مذهبان : أحدهما أنه من صادى يصادي إذا عارض ، ومنه فأنت له تصدى أي تعرض . والمصاداة المعارضة ، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية . فالمعنى صاد القرآن بعملك ، أي : عارضه بعملك وقابله به ، فاعمل بأوامره ، وانته عن نواهيه . النحاس : وهذا المذهب يروى عن الحسن أنه فسر به قراءته رواية صحيحة . وعنه أن المعنى اتله وتعرض لقراءته . والمذهب الآخر : أن تكون الدال مكسورة لالتقاء الساكنين . وقرأ عيسى بن عمر " صاد " بفتح الدال مثله : " قاف " و " نون " بفتح آخرها . وله في ذلك ثلاثة مذاهب : أحدهن : أن يكون بمعنى اتل . والثاني : أن يكون فتح لالتقاء الساكنين واختار الفتح للإتباع ، ولأنه أخف الحركات . والثالث : أن يكون [ ص: 130 ] منصوبا على القسم بغير حرف ، كقولك : الله لأفعلن ، وقيل : نصب على الإغراء . وقيل : معناه صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به . وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا " صاد " بكسر الدال والتنوين على أن يكون مخفوضا على حذف حرف القسم ، وهذا بعيد وإن كان سيبويه قد أجاز مثله . ويجوز أن يكون مشبها بما لا يتمكن من الأصوات وغيرها . وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع : " صاد " و " قاف " و " نون " بضم آخرهن : لأنه المعروف بالبناء في غالب الحال ، نحو منذ وقط وقبل وبعد . و " ص " إذا جعلته اسما للسورة لم ينصرف ، كما أنك إذا سميت مؤنثا بمذكر لا ينصرف وإن قلت حروفه . وقال ابن عباس وجابر بن عبد الله وقد سئلا عن ص فقالا : لا ندري ما هي . وقال عكرمة : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن ص فقال : ص كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار . وقال سعيد بن جبير : ص بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين . وقال الضحاك : معناه صدق الله . وعنه أن ص قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى . وقال السدي ، وروي عن ابن عباس . وقال محمد بن كعب : هو مفتاح أسماء الله تعالى : صمد ، وصانع المصنوعات ، وصادق الوعد . وقال قتادة : هو اسم من أسماء الرحمن . وعنه أنه اسم من أسماء القرآن . وقال مجاهد : هو فاتحة السورة . وقيل : هو مما استأثر الله تعالى بعلمه وهو معنى القول الأول . وقد تقدم جميع هذا في [ البقرة ] .

قوله تعالى : والقرآن خفض بواو القسم ، والواو بدل من الباء ، أقسم بالقرآن تنبيها على جلالة قدره ، فإن فيه بيان كل شيء ، وشفاء لما في الصدور ، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم .

ذي الذكر خفض على النعت ، وعلامة خفضه الياء ، وهو اسم معتل ، والأصل فيه ذوى على فعل . قال ابن عباس : ومقاتل معنى ذي الذكر ذي البيان . الضحاك : ذي الشرف أي : من آمن به كان شرفا له في الدارين ، كما قال تعالى : لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أي : شرفكم . وأيضا القرآن شريف في نفسه لإعجازه واشتماله على ما لا يشتمل عليه غيره . وقيل : ذي الذكر أي : فيه ذكر ما يحتاج إليه من أمر الدين . وقيل : ذي الذكر أي : فيه ذكر أسماء الله وتمجيده . وقيل : أي : ذي الموعظة والذكر . وجواب القسم محذوف . واختلف فيه على أوجه : فقيل جواب القسم ص ; لأن معناه حق ، فهي جواب لقوله : والقرآن كما تقول : حقا والله ، نزل والله ، وجب والله ، فيكون الوقف من هذا الوجه على قوله : والقرآن ذي الذكر حسنا ، وعلى في عزة وشقاق تماما . قال ابن الأنباري . وحكى معناه الثعلبي عن الفراء . [ ص: 131 ] وقيل : الجواب بل الذين كفروا في عزة وشقاق لأن بل نفي لأمر سبق وإثبات لغيره ، قاله القتبي ، فكأنه قال : والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق عن قبول الحق وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم . أو والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقولون من أنك ساحر كذاب ; لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة بل هم في تكبر عن قبول الحق . وهو كقوله : ق والقرآن المجيد . بل عجبوا . وقيل : الجواب كم أهلكنا كأنه قال : والقرآن لكم أهلكنا ، فلما تأخرت كم حذفت اللام منها ، كقوله تعالى : والشمس وضحاها ثم قال : قد أفلح أي : لقد أفلح . قال المهدوي : وهذا مذهب الفراء . ابن الأنباري : فمن هذا الوجه لا يتم الوقف على قوله : في عزة وشقاق . وقال الأخفش : جواب القسم إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ونحو منه قوله تعالى : تالله إن كنا لفي ضلال مبين وقوله : والسماء والطارق إلى قوله إن كل نفس ابن الأنباري : وهذا قبيح ; لأن الكلام قد طال فيما بينهما وكثرت الآيات والقصص . وقال الكسائي : جواب القسم قوله : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار . ابن الأنباري : وهذا أقبح من الأول ; لأن الكلام أشد طولا فيما بين القسم وجوابه . وقيل : الجواب قوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد . وقال قتادة : الجواب محذوف تقديره والقرآن ذي الذكر لتبعثن ونحوه .

قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة أي في تكبر وامتناع من قبول الحق ، كما قال - جل وعز - : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم والعزة عند العرب : الغلبة والقهر . يقال : من عز بز ، يعني من غلب سلب . ومنه : وعزني في الخطاب أراد غلبني . وقال جرير :


يعز على الطريق بمنكبيه كما ابترك الخليع على القداح



أراد يغلب .

قوله تعالى : وشقاق أي في إظهار خلاف ومباينة . وهو من الشق ، كأن هذا في شق وذلك في شق . وقد مضى في [ البقرة ] مستوفى .

قوله تعالى : كم أهلكنا من قبلهم من قرن أي قوم كانوا أمنع من هؤلاء . و " كم " لفظة التكثير

فنادوا أي بالاستغاثة والتوبة . والنداء رفع الصوت ، ومنه الخبر : [ ص: 132 ] ( ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا ) أي : أرفع .

ولات حين مناص قال الحسن : نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل . النحاس : وهذا تفسير منه لقوله - عز وجل - : ولات حين مناص فأما إسرائيل فروى عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : ولات حين مناص قال : ليس بحين نزو ولا فرار ، قال : ضبط القوم جميعا قال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض : مناص ، أي : عليكم بالفرار والهزيمة ، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص ، فقال الله - عز وجل - : ولات حين مناص قال القشيري : وعلى هذا فالتقدير : فنادوا مناص فحذف لدلالة بقية الكلام عليه ، أي : ليس الوقت وقت ما تنادون به . وفي هذا نوع تحكم ، إذ يبعد أن يقال : كل من هلك من القرون كانوا يقولون مناص عند الاضطرار . وقيل : المعنى ولات حين مناص أي : لا خلاص ، وهو نصب بوقوع " لا " عليه . قال القشيري : وفيه نظر لأنه لا معنى على هذا للواو في ولات حين مناص وقال الجرجاني : أي : فنادوا حين لا مناص ، أي : ساعة لا منجى ولا فوت . فلما قدم " لا " وأخر " حين " اقتضى ذلك الواو ، كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا ، مثل قولك : جاء زيد راكبا ، فإذا جعلته مبتدأ وخبرا اقتضى الواو مثل : جاءني زيد وهو راكب ، فحين ظرف لقوله : فنادوا . والمناص بمعنى التأخر والفرار والخلاص ، أي : نادوا لطلب الخلاص في وقت لا يكون لهم فيه خلاص . قال الفراء : .


أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص



يقال : ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي : فر وزاغ . النحاس : ويقال : ناص ينوص إذا تقدم .

قلت : فعلى هذا يكون من الأضداد ، والنوص الحمار الوحشي . واستناص أي : تأخر ، قاله الجوهري . وتكلم النحويون في ولات حين وفي الوقف عليه ، وكثر فيه أبو عبيدة القاسم بن سلام في كتاب القراءات وكل ما جاء به إلا يسيرا مردود . فقال سيبويه : لات مشبهة بليس والاسم فيها مضمر ، أي : ليست أحياننا حين مناص . وحكى أن من العرب من يرفع بها فيقول : ولات حين مناص . وحكى أن الرفع قليل ، ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم محذوفا في النصب ، أي : ولات حين مناص لنا . والوقف عليها عند سيبويه والفراء ولات [ ص: 133 ] بالتاء ثم تبتدئ حين مناص هو قول ابن كيسان والزجاج . قال أبو الحسن بن كيسان : والقول كما قال سيبويه ; لأنه شبهها بليس ، فكما يقال ليست يقال لات . والوقوف عليها عند الكسائي بالهاء : ولاه . وهو قول المبرد محمد بن يزيد . وحكى عنه علي بن سليمان أن الحجة في ذلك أنها دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة ، كما يقال ثمه وربه . وقال القشيري : وقد يقال ثمت بمعنى ثم ، وربت بمعنى رب ، فكأنهم زادوا في لا هاء فقالوا : لاه ، كما قالوا في ثمه عند الوصل صارت تاء . وقال الثعلبي : وقال أهل اللغة : و " لات حين " مفتوحتان كأنهما كلمة واحدة ، وإنما هي " لا " زيدت فيها التاء نحو رب وربت ، وثم وثمت . قال أبو زبيد الطائي :


طلبوا صلحنا ولات أوان     فأجبنا أن ليس حين بقاء



وقال آخر :


تذكر حب ليلى لات حينا     وأمسى الشيب قد قطع القرينا



ومن العرب من يخفض بها ، وأنشد الفراء :


فلتعرفن خلائقا مشمولة     ولتندمن ولات ساعة مندم



وكان الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش يذهبون إلى أن " ولات حين " التاء منقطعة من حين ، ويقولون معناها وليست . وكذلك هو في المصاحف الجدد والعتق بقطع التاء من حين . وإلى هذا كان يذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : الوقف عندي على هذا الحرف " ولا " والابتداء " تحين مناص " فتكون التاء مع حين . وقال بعضهم : " لات " ثم يبتدئ فيقول : " حين مناص " . قال المهدوي : وذكر أبو عبيد أن التاء في المصحف متصلة بحين ، وهو غلط عند النحويين ، وهو خلاف قول المفسرين . ومن حجة أبي عبيد أن قال : إنا لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن ، وأنشد لأبي وجزة السعدي :


العاطفون تحين ما من عاطف     والمطعمون زمان أين المطعم



وأنشد لأبي زبيد الطائي :


طلبوا صلحنا ولا تأوان     فأجبنا أن ليس حين بقاء



فأدخل التاء في " أوان " . قال أبو عبيد : ومن إدخالهم التاء في الآن ، حديث ابن عمر وسأله رجل عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، فذكر مناقبه ثم قال : اذهب بها تلان معك . وكذلك قول الشاعر :

[ ص: 134 ]

نولي قبل نأي داري جمانا     وصلينا كما زعمت تلانا



قال أبو عبيد : ثم مع هذا كله إني تعمدت النظر في الذي يقال له الإمام - مصحف عثمان - فوجدت التاء متصلة مع " حين " قد كتبت " تحين " . قال أبو جعفر النحاس : أما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فرواه العلماء باللغة على أربعة أوجه ، كلها على خلاف ما أنشده ، وفي أحدها تقديران ، رواه أبو العباس محمد بن يزيد :

العاطفون ولات ما من عاطف



والرواية الثانية :

العاطفون ولات حين تعاطف



والرواية الثالثة رواها ابن كيسان :

العاطفونة حين ما من عاطف



جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج ، وزعم أنها لبيان الحركة ، شبهت بهاء التأنيث . الرواية الرابعة :

العاطفونه حين ما من عاطف



وفي هذه الرواية تقديران ، أحدهما وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق أن الهاء في موضع نصب ، كما تقول : الضاربون زيدا ، فإذا كنيت قلت : الضاربوه . وأجاز سيبويه في الشعر الضاربونه ، فجاء إسماعيل بالتأنيث على مذهب سيبويه في إجازته مثله . والتقدير الآخر : العاطفونه على أن الهاء لبيان الحركة ، كما تقول : مر بنا المسلمونه في الوقف ، ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف ، كما قرأ أهل المدينة : ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه وأما البيت الثاني فلا حجة له فيه ; لأنه يوقف عليه : " ولات أوان " غير أن فيه شيئا مشكلا ; لأنه يروى : " ولات أوان " بالخفض ، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا أو منصوبا . وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ " ولات حين مناص " بكسر التاء من لات والنون من حين ، فإن الثبت عنه أنه قرأ " ولات حين مناص " فبنى " لات " على الكسر ونصب " حين " . فأما : ولات أوان ففيه تقديران ، قال الأخفش : فيه مضمر ، أي : ولات حين أوان . قال النحاس : وهذا القول بين الخطأ . والتقدير الآخر عن أبي إسحاق قال : تقديره ولات أواننا ، فحذف المضاف [ ص: 135 ] إليه فوجب ألا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين . وأنشده محمد بن يزيد ولات أوان بالرفع . وأما البيت الثالث فبيت مولد لا يعرف قائله ولا تصح به حجة . على أن محمد بن يزيد رواه : كما زعمت الآن . وقال غيره : المعنى كما زعمت أنت الآن . فأسقط الهمزة من أنت والنون . وأما احتجاجه بحديث ابن عمر ، لما ذكر للرجل مناقب عثمان فقال له : اذهب بها تلان إلى أصحابك ، فلا حجة فيه ; لأن المحدث إنما يروي هذا على المعنى . والدليل على هذا أن مجاهدا يروي عن ابن عمر هذا الحديث وقال فيه : اذهب فاجهد جهدك . ورواه آخر : اذهب بها الآن معك . وأما احتجاجه بأنه وجدها في الإمام " تحين " . فلا حجة فيه ; لأن معنى الإمام أنه إمام المصاحف ، فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها ، وفي المصاحف كلها " ولات " فلو لم يكن في هذا إلا هذا الاحتجاج لكان مقنعا . وجمع مناص مناوص .

التالي السابق


الخدمات العلمية