صفحة جزء
قوله تعالى : إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا

قوله تعالى : إن للمتقين مفازا ذكر جزاء من اتقى مخالفة أمر الله مفازا موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار . ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها : مفازة ، تفاؤلا بالخلاص منها .

حدائق وأعنابا هذا تفسير الفوز . وقيل : إن للمتقين مفازا إن للمتقين حدائق ; جمع حديقة ، وهي البستان المحوط عليه ; يقال أحدق به : أي أحاط . والأعناب : جمع عنب ، أي كروم أعناب ، فحذف .

وكواعب أترابا كواعب : جمع كاعب وهي الناهد ; [ ص: 159 ] يقال : كعبت الجارية تكعب كعوبا ، وكعبت تكعب تكعيبا ، ونهدت تنهد نهودا . وقال الضحاك : ككواعب العذارى ; ومنه قول قيس بن عاصم :


وكم من حصان قد حوينا كريمة ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر

والأتراب : الأقران في السن . وقد مضى في سورة ( الواقعة ) الواحد : ترب .

وكأسا دهاقا قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس : مترعة مملوءة ; يقال : أدهقت الكأس : أي ملأتها ، وكأس دهاق أي ممتلئة ; قال :


ألا فاسقني صرفا سقاني الساقي     من مائها بكأسك الدهاق

وقال خداش بن زهير :


أتانا عامر يبغي قرانا     فأترعنا له كأسا دهاقا

وقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا : متتابعة ، يتبع بعضها بعضا ; ومنه ادهقت الحجارة ادهاقا ، وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض ; فالمتتابع كالمتداخل . وعن عكرمة أيضا وزيد بن أسلم : صافية ; قال الشاعر :


لأنت إلى الفؤاد أحب قربا     من الصادي إلى كأس دهاق

وهو جمع دهق ، وهو خشبتان يغمز بهما الساق ، والمراد بالكأس الخمر ، فالتقدير : خمرا ذات دهاق ، أي عصرت وصفيت ; قاله القشيري . وفي الصحاح : وأدهقت الماء : أي أفرغته إفراغا شديدا : قال أبو عمرو : والدهق - بالتحريك : ضرب من العذاب . وهو بالفارسية أشكنجه . المبرد : والمدهوق : المعذب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه . ابن الأعرابي : دهقت الشيء كسرته وقطعته ، وكذلك دهدقته : وأنشد لحجر بن خالد :


ندهدق بضع اللحم للباع والندى     وبعضهم تغلي بذم مناقعه

ودهمقته بزيادة الميم : مثله . وقال الأصمعي : الدهمقة : لين الطعام وطيبه ورقته ، وكذلك كل شيء لين ; ومنه حديث عمر : لو شئت أن يدهمق لي لفعلت ، ولكن الله عاب قوما فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها .

قوله تعالى : لا يسمعون فيها أي في الجنة لغوا ولا كذابا اللغو : الباطل ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح ; ومنه الحديث : إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام [ ص: 160 ] يخطب فقد لغوت وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم ، ولم يتكلموا بلغو ; بخلاف أهل الدنيا . ولا كذابا تقدم ، أي لا يكذب بعضهم بعضا ، ولا يسمعون كذبا . وقرأ الكسائي ( كذابا ) بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة . وقيل : هما مصدران للتكذيب ، وإنما خففها هاهنا لأنها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له ، وشدد قوله : وكذبوا بآياتنا كذابا لأن كذبوا يقيد المصدر بالكذاب .

جزاء من ربك نصب على المصدر . لأن المعنى جزاهم بما تقدم ذكره ، جزاءه وكذلك عطاء لأن معنى أعطاهم وجزاهم واحد . أي أعطاهم عطاء . حسابا أي كثيرا ، قاله قتادة ; يقال : أحسبت فلانا : أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي . قال :


ونقفي وليد الحي إن كان جائعا     ونحسبه إن كان ليس بجائع

وقال القتبي : ونرى أصل هذا أن يعطيه حتى يقول حسبي . وقال الزجاج : حسابا أي ما يكفيهم . وقاله الأخفش . يقال : أحسبني كذا : أي كفاني . وقال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا . مجاهد : حسابا لما عملوا ، فالحساب بمعنى العد . أي بقدر ما وجب له في وعد الرب ، فإنه وعد للحسنة عشرا ، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف ، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار ; كما قال تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب . وقرأ أبو هاشم عطاء حسابا بفتح الحاء ، وتشديد السين ، على وزن فعال أي كفافا ; قال الأصمعي : تقول العرب : حسبت الرجل بالتشديد : إذا أكرمته ; وأنشد قول الشاعر :

إذا أتاه ضيفه يحسبه وقرأ ابن عباس ( حسانا ) بالنون .

التالي السابق


الخدمات العلمية