صفحة جزء
قوله تعالى : إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون

قوله تعالى : إن الأبرار أي أهل الصدق والطاعة . لفي نعيم أي نعمة ، والنعمة بالفتح : التنعيم ; يقال : نعمه الله وناعمه فتنعم وامرأة منعمة ومناعمة بمعنى . أي إن الأبرار في الجنات يتنعمون .

على الأرائك وهي الأسرة في الحجال ينظرون أي إلى ما أعد الله لهم من الكرامات ; قاله عكرمة وابن عباس ومجاهد . وقال مقاتل : ينظرون إلى أهل النار . وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ينظرون إلى أعدائهم في النار " ذكره المهدوي . وقيل : على أرائك أفضاله ينظرون إلى وجهه وجلاله .

قوله تعالى : تعرف في وجوههم نضرة النعيم أي بهجته وغضارته ونوره ; يقال : نضر النبات : إذا أزهر ونور . وقراءة العامة ( تعرف ) بفتح التاء وكسر الراء نضرة نصبا ; أي تعرف يا محمد . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويعقوب وشيبة وابن أبي إسحاق : ( تعرف ) بضم التاء وفتح الراء على الفعل المجهول ( نضرة ) رفعا .

يسقون من رحيق أي من شراب لا [ ص: 227 ] غش فيه . قاله الأخفش والزجاج . وقيل ، الرحيق الخمر الصافية . وفي الصحاح : الرحيق صفوة الخمر . والمعنى واحد . الخليل : أقصى الخمر وأجودها . وقال مقاتل وغيره : هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش النيرة ، قال حسان :


يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل

وقال آخر :


أم لا سبيل إلى الشباب وذكره     أشهى إلي من الرحيق السلسل

مختوم ختامه مسك قال مجاهد : يختم به آخر جرعة . وقيل : المعنى إذا شربوا هذا الرحيق ففني ما في الكأس ، انختم ذلك بخاتم المسك . وكان ابن مسعود يقول : يجدون عاقبتها طعم المسك . ونحوه عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي قالا : ختامه آخر طعمه . وهو حسن ; لأن سبيل الأشربة أن يكون الكدر في آخرها ، فوصف شراب أهل الجنة بأن رائحة آخره رائحة المسك . وعن مسروق عن عبد الله قال : المختوم الممزوج . وقيل : مختوم أي ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس إلى أن يفك ختامها الأبرار . وقرأ علي وعلقمة وشقيق والضحاك وطاوس والكسائي ( خاتمه ) بفتح الخاء والتاء وألف بينهما . قاله علقمة : أما رأيت المرأة تقول للعطار : اجعل خاتمه مسكا ، تريد آخره . والخاتم والختام متقاربان في المعنى ، إلا أن الخاتم الاسم ، والختام المصدر ; قاله الفراء . وفي الصحاح : والختام : الطين الذي يختم به . وكذا قال مجاهد وابن زيد : ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين . حكاه المهدوي . وقال الفرزدق :


وبت أفض أغلاق الختام

وقال الأعشى :


وأبرزها وعليها ختم

أي عليها طينة مختومة ; مثل نفض بمعنى منفوض ، وقبض بمعنى مقبوض . وذكر ابن المبارك وابن وهب ، واللفظ لابن وهب ، عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : ختامه مسك : خلطه ، ليس بخاتم يختم ، ألا ترى إلى قول المرأة من نسائكم : إن خلطه من الطيب كذا وكذا . إنما خلطه مسك ; قال : شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر أشربتهم ، لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها ، لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها . وروى [ ص: 228 ] أبي بن كعب قال : قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم ؟ قال : " غدران الخمر " . وقيل : مختوم في الآنية ، وهو غير الذي يجري في الأنهار . فالله أعلم .

وفي ذلك أي وفي الذي وصفناه من أمر الجنة فليتنافس المتنافسون أي فليرغب الراغبون يقال : ( نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة : أي ضننت به ، ولم أحب أن يصير إليه . وقيل : الفاء بمعنى إلى ، أي وإلى ذلك فليتبادر المتبادرون في العمل ; نظيره : لمثل هذا فليعمل العاملون ) .

ومزاجه أي ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم وهو شراب ينصب عليهم من علو ، وهو أشرف شراب في الجنة . وأصل التسنيم في اللغة : الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل ; ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه ، وكذلك تسنيم القبور . وروي عن عبد الله قال : ( تسنيم ) عين في الجنة يشرب بها المقربون صرفا ، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين فتطيب . وقال ابن عباس في قوله - عز وجل - : ومزاجه من تسنيم قال : هذا مما قال الله تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين . وقيل : التسنيم عين تجري في الهواء بقدرة الله تعالى ، فتنصب في أواني أهل الجنة على قدر مائها ، فإذا امتلأت أمسك الماء ، فلا تقع منه قطرة على الأرض ، ولا يحتاجون إلى الاستقاء ; قاله قتادة ، ابن زيد : بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش . وكذا في مراسيل الحسن . وقد ذكرناه في سورة ( الإنسان ) .

عينا يشرب بها المقربون أي يشرب منها أهل جنة عدن ، وهم أفاضل أهل الجنة صرفا ، وهي لغيرهم مزاج . و ( عينا ) نصب على المدح . وقال الزجاج : نصب على الحال من تسنيم ، وتسنيم معرفة ، ليس يعرف له اشتقاق ، وإن جعلته مصدرا مشتقا من السنام ف ( عينا ) نصب ; لأنه مفعول به ; كقوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما وهذا قول الفراء إنه منصوب بتسنيم . وعند الأخفش ب " يسقون " أي يسقون عينا أو من عين . وعند المبرد بإضمار أعني على المدح .

التالي السابق


الخدمات العلمية