صفحة جزء
[ ص: 81 ] سورة الضحى

مكية
باتفاق . وهي إحدى عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى

قوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى قد تقدم القول في ( الضحى ) ، والمراد به النهار لقوله : والليل إذا سجى فقابله بالليل . وفي سورة ( الأعراف ) أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أي نهارا . وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق : أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى ، وبليلة المعراج . وقيل : هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا . بيانه قوله تعالى : وأن يحشر الناس ضحى . وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله : فيه إضمار ، مجازه ورب الضحى .

وسجا معناه : سكن قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة . يقال : ليلة ساجية أي ساكنة . ويقال للعين إذا سكن طرفها : ساجية . يقال : سجا الليل يسجو سجوا : إذا سكن . والبحر إذا سجا : سكن . قال الأعشى :


فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما يواري الدعامصا

وقال الراجز :


يا حبذا القمراء والليل ساج     وطرق مثل ملاء النساج

[ ص: 82 ] وقال جرير :


ولقد رمينك يوم رحن بأعين     ينظرن من خلل الستور سواجي

وقال الضحاك : سجا غطى كل شيء . قال الأصمعي : سجو الليل : تغطيته النهار مثلما يسجى الرجل بالثوب . وقال الحسن : غشي بظلامه وقاله ابن عباس . وعنه : إذا ذهب . وعنه أيضا : إذا أظلم . وقال سعيد بن جبير : أقبل وروي عن قتادة أيضا . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : سجا استوى . والقول الأول أشهر في اللغة : سجا سكن أي سكن الناس فيه . كما يقال : نهار صائم ، وليل قائم . وقيل : سكونه استقرار ظلامه واستواؤه . ويقال : والضحى والليل إذا سجا : يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى ، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم . ويقال : الضحى : يعني نور الجنة إذا تنور . والليل إذا سجا : يعني ظلمة الليل إذا أظلم . ويقال : والضحى : يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار . والليل إذا سجا : يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل فأقسم الله - عز وجل - بهذه الأشياء .

ما ودعك ربك هذا جواب القسم . وكان جبريل - عليه السلام - أبطأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون : قلاه الله وودعه فنزلت الآية . وقال ابن جريج : احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما . وقال ابن عباس : خمسة عشر يوما . وقيل : خمسة وعشرين يوما . وقال مقاتل : أربعين يوما . فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه ، ولو كان أمره من الله لتابع عليه ، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء . وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت : يا محمد ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله - عز وجل - والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى .

وفي الترمذي عن جندب البجلي قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار فدميت أصبعه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل أنت إلا أصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت قال : وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون : قد ودع محمد فأنزل الله تبارك وتعالى : ما ودعك ربك وما قلى . هذا حديث حسن صحيح . لم يذكر الترمذي : ( فلم يقم ليلتين أو ثلاثا ) أسقطه الترمذي . وذكره البخاري ، وهو أصح ما قيل في ذلك . والله أعلم .

وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي ، قال : رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - في إصبعه بحجر ، فدميت ، فقال : أنت إلا أصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل . فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب : ما أرى شيطانك إلا قد [ ص: 83 ] تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فنزلت والضحى . وروى عن أبي عمران الجوني ، قال : " أبطأ جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى شق عليه فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو فنكت بين كتفيه ، وأنزل عليه : ما ودعك ربك وما قلى . وقالت خولة - وكانت تخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن جروا دخل البيت ، فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أياما لا ينزل عليه الوحي . فقال : " يا خولة ، ما حدث في بيتي ؟ ما لجبريل لا يأتيني " قالت خولة فقلت : لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فإذا جرو ميت ، فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبي الله ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال : " يا خولة دثريني " فأنزل الله هذه السورة . ولما نزل جبريل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التأخر فقال : " أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة " .

وقيل : لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال : " سأخبركم غدا " . ولم يقل إن شاء الله . فاحتبس عنه الوحي ، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله فأخبره بما سئل عنه . وفي هذه القصة نزلت ما ودعك ربك وما قلى . وقيل : إن المسلمين قالوا : يا رسول الله ، ما لك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال : " وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم - وفي رواية براجمكم - ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم " . فنزل جبريل بهذه السورة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما جئت حتى اشتقت إليك " فقال جبريل : " وأنا كنت أشد إليك شوقا ، ولكني عبد مأمور " ثم أنزل عليه وما نتنزل إلا بأمر ربك . ودعك بالتشديد : قراءة العامة ، من التوديع ، وذلك كتوديع المفارق . وروي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرآه ( ودعك ) بالتخفيف ، ومعناه : تركك . قال :


وثم ودعنا آل عمرو وعامر     فرائس أطراف المثقفة السمر

واستعماله قليل . يقال : هو يدع كذا ، أي يتركه . قال المبرد محمد بن يزيد : لا يكادون يقولون ودع ولا وذر ، لضعف الواو إذا قدمت ، واستغنوا عنها بترك .

قوله تعالى : وما قلى أي ما أبغضك ربك منذ أحبك . وترك الكاف ; لأنه رأس آية . والقلى : البغض فإن فتحت القاف مددت تقول : قلاه يقليه قلى وقلاء . كما تقول : قريت الضيف أقريه قرى وقراء . ويقلاه : لغة طيئ . وأنشد ثعلب :

[ ص: 84 ]

أيام أم الغمر لا نقلاها

أي لا نبغضها . ونقلى أي نبغض . وقال [ كثير عزة ] :


أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة     لدينا ولا مقلية إن تقلت

وقال امرؤ القيس :


صرفت الهوى عنهن من خشية الهوى     ولست بمقلي الخلال ولا قال



وتأويل الآية : ما ودعك ربك وما قلاك . فترك الكاف ; لأنه رأس آية كما قال - عز وجل - : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أي والذاكرات الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية