صفحة جزء
قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره كان ابن عباس يقول : من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا ، ولا يثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة ، مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات ، ويتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه ، ويضاعف له في الآخرة . وفي بعض الحديث : " الذرة لا زنة لها " وهذا مثل ضربه الله تعالى : أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة . وهو مثل قوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة .

وقد تقدم الكلام هناك في الذر ، وأنه لا وزن له . وذكر بعض أهل اللغة أن الذر : أن يضرب الرجل بيده على الأرض ، فما علق بها من التراب فهو الذر ، وكذا قال ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها ، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة . وقال محمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر ير ثوابه في الدنيا ، في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير . ومن يعمل ، مثقال ذرة من شر من مؤمن ، ير عقوبته في الدنيا ، في نفسه وماله وولده وأهله ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر . دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس : أن هذه الآية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يأكل ، فأمسك وقال : يا رسول الله ، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر ؟ قال : " ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذر الشر ، ويدخر لكم مثاقيل ذر الخير ، حتى تعطوه يوم القيامة " .

قال أبو إدريس : إن مصداقه في كتاب الله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وقال مقاتل : نزلت في رجلين ، وذلك أنه لما نزل ويطعمون الطعام على حبه كان أحدهم يأتيه السائل ، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة . وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، كالكذبة والغيبة والنظرة ، ويقول : إنما أوعد الله النار على الكبائر ; [ ص: 135 ] فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه ; فإنه يوشك أن يكثر ، ويحذرهم اليسير من الذنب ، فإنه يوشك أن يكثر ; وقاله سعيد بن جبير . والإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء .

الثانية : قراءة العامة يره بفتح الياء فيهما . وقرأ الجحدري والسلمي وعيسى بن عمر وأبان عن عاصم : يره بضم الياء ; أي يريه الله إياه . والأولى الاختيار ; لقوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا الآية . وسكن الهاء في قوله يره في الموضعين هشام . وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حيوة والمغيرة . واختلس يعقوب والزهري والجحدري وشيبة . وأشبع الباقون . وقيل يره أي يرى جزاءه ; لأن ما عمله قد مضى وعدم فلا يرى . وأنشدوا :


إن من يعتدي ويكسب إثما وزن مثقال ذرة سيراه     ويجازى بفعله الشر شرا
وبفعل الجميل أيضا جزاه     هكذا قوله تبارك ربي
في إذا زلزلت وجل ثناه

الثالثة : قال ابن مسعود : هذه أحكم آية في القرآن ، وصدق . وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية ; القائلون بالعموم ومن لم يقل به . وروى كعب الأحبار أنه قال : لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . قال الشيخ أبو مدين في قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره قال : في الحال قبل المآل . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمي هذه الآية الآية الجامعة الفاذة ; كما في الصحيح لما سئل عن الحمر وسكت عن البغال ، والجواب فيهما واحد ; لأن البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر ; فلما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما في الخيل من الأجر الدائم ، والثواب المستمر ، سأل السائل عن الحمر ; لأنهم لم يكن عندهم يومئذ بغل ، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( الدلدل ) ، التي أهداها له المقوقس ، فأفتاه في الحمير بعموم الآية ، وإن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة ; قاله ابن العربي . وفي الموطأ : أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب ; فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه إياها . فجعل ينظر إليها ويعجب ; فقالت : أتعجب ! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة . وروي عن سعد بن أبي وقاص : أنه تصدق بتمرتين ، فقبض السائل يده ، فقال للسائل : ويقبل الله منا مثاقيل الذر ، وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة . وروى المطلب بن حنطب : أن أعرابيا سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها فقال : يا رسول الله ، [ ص: 136 ] أمثقال ذرة ! قال : " نعم " فقال الأعرابي : واسوأتاه ! مرارا : ثم قام وهو يقولها ; فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان " .

وقال الحسن : قدم صعصعة عم الفرزدق على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما سمع فمن يعمل مثقال ذرة الآيات قال : لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها ، حسبي ، فقد انتهت الموعظة ; ذكره الثعلبي . ولفظ الماوردي : وروي أن صعصعة بن ناجية جد الفرزدق أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقرئه ، فقرأ عليه هذه الآية ; فقال صعصعة : حسبي حسبي ; إن عملت مثقال ذرة شرا رأيته . وروى معمر عن زيد بن أسلم : أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : علمني مما علمك الله . فدفعه إلى رجل يعلمه ; فعلمه إذا زلزلت - حتى إذا بلغ - فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره قال : حسبي . فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " دعوه فإنه قد فقه " . ويحكى أن أعرابيا أخر خيرا يره فقيل : قدمت وأخرت . فقال :


خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه     كلا جانبي هرشى لهن طريق

التالي السابق


الخدمات العلمية